ست روايات بوكرية على الرف


*محمد العباس


العام الماضي، وبعد إعلان القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية (بوكر) اتصلت بي صحافية لتستطلع مني ما أميل إليه من ترشيحات للرواية التي يمكن أن تفوز بالجائزة. 
وكعادة معظم المحررين الثقافيين، كانت مستعجلة وجاهلة بأغلب شروط وحيثيات الجائزة وعناوين الروايات المرشحة. وكنت حينها لم أطّلع بعد إلا على ثلاث روايات فقط. فاعتذرت منها لأنني لا أستطيع إبداء رأيي إلا بعد أن أستكمل قراءة الروايات الست، وكذلك لأنني لا أفضل ترجيح رواية دون أخرى في هامش إعلامي ضيق، إلا إنها أصرت على أخذ رأيي بأي شكل من الأشكال حتى إن كان قاصراً. 
ولكنني رفضت لأفاجأ بعد يومين باستطلاعها الصحافي المزدحم بطابور من الأسماء الذين كانوا على درجة من الجرأة واللامبالاة وعدم الدراية في تقاذف الروايات وترتيبها على هواهم. مع إقرار بعض المشاركين بعدم قراءتهم للروايات. وكأن المسألة مجرد لعبة يانصيب. 
وهذا تقليد إعلامي باهت يجذب إليه المدّعين من أشباه القراء، ويشير إلى أزمة قراءة للرواية، خلافاً لما حلّله إيان وات في كتابه المهم «نشوء الرواية»، وما أكده على أهمية القارئ في التأسيس. 
اليوم، وبعد الإعلان عن القائمة القصيرة للعام الجديد 2016 بدأت الماكينة الإعلامية تدور في المدار الهبائي نفسه. وبدأت الترجيحات الطائشة تتوالى، وليس هذا هو المهم، بل المهم هو أن القارئ أصبح أمام مهمة قرائية محدودة ومعلومة. 
ست روايات فقط مركونة على الرّف وبانتظار زيت القارئ ليحركها من هجعتها، وهي لا تتطلب أكثر من الرغبة الحقيقية للقراءة، إذ يمكن لأي جماعة من جماعات القراءة، المنتشرة بكثافة في جميع أنحاء العالم العربي، أن ترتب برنامج لقاءاتها لمطالعة الروايات الست المتأهلة، أي بمعدل رواية كل أسبوع. وهي مهمة ليست على تلك الدرجة من الصعوبة أو التعقيد بالنسبة لمن أُصطلح عليه في حقل التلقي بالقارئ الجديد أو القارئ النموذجي. 
ويمكن إنجازها قبل السادس والعشرين من أبريل/نيسان، يوم إعلان الفائز بالجائزة. كما يمكن لأعضاء الجماعة إبداء وجهات نظرهم حول الروايات، وإعلان نتيجة موازية للنتيجة التي ستتوصل إليها لجنة تحكيم الجائزة النتيجة التي سيتوصل إليها هذا النادي القرائي أو تلك الجماعة، قد تتوافق مع ما ذهبت إليه اللجنة، وقد تتعارض معها وهذا أمر مستحسن في الحياة الثقافية، لأن النتيجة ستكون مبنية في المقام الأول على مقروئية، وليست بموجب حدس أو مزاج أو حتى تفكير رغبوي. 
كما أن لهذا الفعل الثقافي تداعياته الصحية على مجمل النشاط الثقافي، وليس على الرواية فقط، حيث سيؤكد هذا المنحى القرائي الجاد، على وجود القارئ بما هو أسطورة معرفية جمالية، حسب نظريات استقبال النص. 
كما سيعزز حضوره في معادلة إنتاج النص، إذ يمكن لكل من قرأ الروايات الست الإدلاء برأيه، والتعليق على النتيجة، بمقتضى قراءته. 
وليس من منطلقات إقليمية أو عنصرية أو تهويشية، فلا حق لمن لم يقرأ الروايات في الاعتراض على أي نتيجة تقرها لجنة تحكيم الجائزة. 
إثر كل دورة من دورات الجائزة تتردد في أرجاء المشهد الثقافي العربي تعليقات غير مسؤولة، تنحى في الغالب إلى اتهام اللجنة وتخوينها، وهذه التعليقات غالباً ما تصدر عن كائنات لم تقرأ سطراً واحداً من أي رواية، حيث يقف الإعلام الثقافي المستعجل، بكل خفة ولا مبالاة، وراء تلك التصريحات النارية التي تصلح لتأجيج المعارك التي تأخذ مكانها في الهامش وتستمد وقودها من أشباه المثقفين الراغبين في الظهور لمجرد الظهور، من خلال لقاءات صحافية نيئة، تحمل في مضمراتها بذور التشكيك في الجائزة ومقاصدها ولجنة تحكيمها، ولكنها لا تُقارب النص، لأن الصحافي نفسه لم يقرأ أي رواية من تلك الروايات، التي يجهل عناوينها إلى ما قبل إعلان النتيجة. 
أغلب الذين يشاركون في تلك التحقيقات الصحافية الخارجة من غرف طوارئ الصحف، هم من صنف القارئ الذي لا يقرأ. القارئ المتبرّم، الكسول، الملول، الحاضر في المشهد عبر الصيحات والاستعراضات، وليس من خلال التماس مع جماليات النصوص، ولذلك يجد نفسه في متوالية أندية القراءة الاستعراضية. 
أندية القراءة التي تباهي بعدد الكُتب المحمّلة إلكترونياً، وبالمشاهد المصوَّرة للقاءات القراءة الحميمية، وتصوير أكبر قدر ممكن من أغلفة الكتب، وهو من النوع المغرم بالمفاضلات الثنائية لأسباب لا علاقة لها بكفاءة المنتج الأدبي. إنما بموجب شطحة مزاجية، تقوم على الادعاء والتصنّع، وتحويل كل الحالة الثقافية إلى حلبة سباق. تماماً بذات الذهنية التي يشجع بها من المدرجات فريق كرة قدم يستهويه لأسباب عاطفية محقونة بالتعصّب. 
الثقافة لا يصلح لها هذا النوع من مشجعي المدرجات، لأنها تعتمد على قارئ لديه المجس التخميني، أو الحس الارتيابي، الذي يقوم بتصور كولريدج على ميثاق تخيلي ضمني يتواصل عبره مع الروائي، أي القارئ المعتقد بأهمية الجهد الذهني والذوق المرهف والجدية إلى حد التنسُّك قبالة المادة المقروءة. خصوصاً لمن يريد إطلاق حكم قيمة على أي منتج أدبي. بمعنى أن كل أولئك الذين يسدون الفضاء الثقافي بتهجماتهم وشتائمهم وتشككاتهم وتظلماتهم لا علاقة لهم لا بالثقافة ولا بالقراءة. وأنهم مجرد عوائق تمنع الوصول إلى جوهر النص. 
وللأسف هذا الفصيل من مدّعي القراءة والثقافة والنقد هو الأكثر عدداً وحضوراً، والأعلى صوتاً. وهو أمر مفهوم ومستوعب ومتوقع، لأنهم خارج إطار المساءلة والمسؤولية، وكل ما يرمون به من آراء ساخطة وقاصرة لن يتم إخضاعها لأي شكل من أشكال الاستجواب. 
النص آلة كسولة، بمنظور أمبرتو إيكو، وهذه حقيقة مثبتة، إذ لا يمكن لأي رواية أن تفصح عن معالمها ومضامينها وجمالياتها بدون قراءة، ولا أدري لماذا لا تتصدى أي مؤسسة ثقافية أهلية أو رسمية لتنظيم محاضرات أو ندوات حول الروايات المتأهلة بعد إعلان النتائج. سواء من خلال حلقات قرائية أو نقدية، لتعزيز فكرة الوعي بقراءة الراوية، ولتوطين فعل المقروئية الأدبية الجادة، وللجم كل الهتافات المتشفّية والمتشكّكة المقبلة من مدرجات المشهد. 
فالجائزة ليست مجرد مكافأة مالية يحظى بها أحد المتسابقين وتنتهي الحفلة، بل هي بمثابة الحدث الثقافي، الذي تستمر تداعياته وارتداداته طوال العام. فيما تبقى بعض مآثره في متحف الخلود الإبداعي لعقود وأجيال، وهو الأمر الذي يحتّم هذا التماس الواعي مع كل ما يتعلق بالجائزة والروايات المرشحة، من خلال القراءة بمعناها الخلاق. إن أندية القراءة التي تعلن بين آونة وأخرى عن تحدي قراءة سبعة كُتب في سبعة أيام، أو تحدي المئة كتاب في عام، بمقدورها أن تقتطع من برنامجها ستة أسابيع لقراءة ست روايات هي محط أنظار القارئ العربي، ومن الممكن عرض ما يدور من نقاشات حول الروايات عبر شبكات التواصل الاجتماعي، بدل انتظار نتيجة الجائزة للتعليق على الرواية الفائزة. 
وهذا لا يعني بالتأكيد أن يترك القارئ العربي كل برامجه القرائية ليتفرغ إلى قراءة منتجات (البوكر)، فهي لا تعكس حقيقة الخطاب الروائي العربي تماماً، ولا تزعم أنها تقدم رحيق المختبر الروائي العربي، إلا أنها تساهم بعرض صورة من صور الرواية العربية وتجلياتها الكتابية بمختلف تجاربها وأجيالها، وهو الأمر الذي يجعل من القارئ عند مطالعته لروايات البوكر سلطة ثقافية يُعتد بها، حيث يمثل شكلاً من أشكال الوعي الناقد. الضجيج الرثائي للثقافة بعد إعلان نتيجة (البوكر) لا يدل على وجود ذلك القارئ الذي يمكن الاطمئنان إلى فاعليته كمنتج ثان للنص. 
كما أن علو الصوت لصالح هذه الرواية أو تلك لن يدفعها خطوة واحدة إلى الأمام، فالتظاهرات الجماهيرية ليست هي التي تحدد كفاءة النص، بل كسر عادات التلقي، من خلال التماس الواعي التحليلي الذوقي مع النص. وهو فرض حتمي في هذه اللحظة التي يُطلق عليها عصر القارئ. . 
نعم، القارئ الذي يقرأ، وليس ذلك الذي يقف عند حافة منصة التتويج ليبدأ حملة مضادة للرواية الفائزة وللذين فحصوها إلى جانب جبل من الروايات ليستخلصوا تلك النتيجة، القارئ الذي يستقطع من وقته وجهده ومشاغله ساعات يومياً، ولا يستثقل قراءة رواية كل أسبوع لتكتمل رؤيته الخاصة حول الروايات المتسابقة بعد ستة أسابيع. 
وعندها يمكنه أن يقف على أرضية صلبة ليجادل لجنة التحكيم مهما بدت أسماؤهم ضخمة ومهيبة، ويؤكد وجود ما تسميه أدبيات التلقي سلطة القارئ.
_____
*القدس العربي

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *