عن الثقافة والحرية في زمن التشدد الديني




قراءة: أسامة حبشي*


خاص ( ثقافات )


في ظل المناخ المرعب الذي نحياه، وفي ظل الدعوات التي تخرج من هنا ومن هناك مطالبة بالمنع والمصادرة على حرية الرأي وحرية الفكر والإبداع- وكان آخرها ما تعرض له الكاتب أحمد ناجى ومجلة أخبار الأدب المصرية وكذلك الحكم بالسجن علي إسلام البحيري-، يطل علينا الدكتور جابر عصفور بكتابة “عن الثقافة والحرية” الصادر مؤخراً عن مركز الأهرام للنشر، ليكون بمثابة الحجر الذي يزيح ذلك العبث الذي يخيم علينا ليل نهار، إنه الحجر الذي يحاول تحريك المياه الراكدة على سطح الثقافة المصرية حالياً، وجابر عصفور سواء كنا نختلف معه – أو لنا بعض المآخذ عليه- عندما كان وزيراً لمرتين – مختلفتين- سابقاً أو كنا نختلف معه في أفكاره إلا أنه شئنا أم أبينا يعد واحداً من أهم ممن تناولوا قضية التنوير بعد الدكتور طه حسين، ومما لا شك فيه أيضاً “أن الثقافة المصرية تعاني من كارثة لم يسبق لها مواجهتها من قبل سواء في درجة تعقيدها أو تشعب جوانبها، أو كثرة ما يترتب عليها في مجالات الاقتصاد والصناعة والسياسة وغيرها من المجالات التي تبدو بعيدة عن التأثير الثقافي في الظاهر، ولكنها مشدودة إليه ومتأثرة به على مستويات عديدة وفي مجالات متباينة، فالواقع أن تخلف الوضع الثقافي للأمة او تقدمه يترك تأثيراً في كل مجال من مجالات المجتمع” ص 103، ومن منطلق أننا في أزمة ثقافية، أو أننا نحيا في منعطف خطر الآن، فإن تلك المقالات التي تم جمعها في هذا الكتاب هي بمثابة الرؤية الواضحة، وأيضاً الحلول التي من الممكن أن تعبر بنا ذلك المنعطف.
والعلاقة ما بين الدولة والمثقف وبين السلطة والثقافة أو ما بين المثقف ومحيطه سواء كان صحياً أو قمعياً، هي لب هذا الكتاب “العلاقة متبادلة بين الفكر والإبداع من ناحية والثورة من ناحية موازية، فالفكر والإبداع يمهدان للثورة” ص 379.. وكان من الضروري ربط الثقافة بالحرية، والاقتران بينهما في العنوان الذي جاء به الكتاب كان مسبباً ومنطقياً لأن “الثقافة مرادفة للحرية، وهي الشرط الأول لحضورها وازدهارها بوصفها أفقاً من الوعي المفتوح على المستقبل، وأيضاً لأن المقالات التي يحتويها الكتاب تدور كلها حول الثقافة من حيث هي سلطة معرفة ووعى ملازم للحوار، ونقيض حتمي لكل أشكال التمييز وأفق لا نهائي من الحرية بكل أنواعها.” ص 10
إن جابر عصفور يشير للمأزق الذي نحياه ألا وهو تراجع الخطاب الديني المعتدل، وإحلال إسلام النفط والتمييز والعنصرية بدلاً منه “الخطاب الديني السائد هو أخطر مكونات الوعي الثقافي” ص 271..
وفي تراجع ذلك الخطاب بسبب غياب الوسطية بتنا في غياهب لن ننجو منها إلا بالتنوير “أخذ يفرض علينا ملامح تخلفه المتزايد على الخطاب الديني السائد الذي ازداد سلفية ومحافظة وتخلفا في آن، ففارق الوسطية التي اعتدناها في الخطاب الديني الذي عرفت به مصر” ص 271
وأيضاً لم يغفل الدكتور جابر ما وصلت إليه المرأة من اتهامات ومن محاولات لجعلها تقف في خلفية المشهد الثقافي وليس في مقدمته، حيث إن ازدراء المرأة بات واضحاً وجلياً للجميع، وهذا لم يدركه أهل النقل المدعومين بسلطة الاستبداد السياسي وأولئك يختلفون بأية حال من الأحوال عن أهل العقل، واستشهد عصفور بوضع المرأة في العصر الحديث وثورة 1919 وبين وضعها الآن، وجاء ذلك واضحاً في مقالته “مفهوم المرأة عند ابن تيمية” حيث تقع المرأة في فكر ابن تيمية موقع الآخر الذي تحيط به الريبة وتلازمه أبشع التهم، وابتداء فهي عورة، والعورة قرينة قبح السريرة وسوء الطوية.. ومنبع الإثم والشر والمعصية” ص 302
بدأ عصفور كتابه “عن الثقافة والحرية” بمفتتح أشبه بمقال مطول عن الثقافة كسلطة ومالها من تأثير فاعل علي حركة المجتمع خصوصاً إذا وصفنا هذه الحركة من منظور تنموي تحديثي، “السلطة بمعناها المعنوي هي أنظمة المعرفة وأشكال الوعي وأنساق القيم التي تنطوي على الأبعاد الدلالية الثلاثة: مضمون أو مناط أو مقصد الحجة والبرهان، قوة التأثير، قوة الإجبار والقهر “السلطة بمعنها المادي هي القوة الخالصة التي تبدأ بسلطان الدولة، موزعاً ما بين أجهزتها القمعية وأجهزتها الإيديولوجية” ص 10، وتعرض أيضاً للعلاقة بين الأبعاد الثلاثية للسلطة.
عن الثقافة والحرية جاء في الحجم الكبير وقد تجاوزت صفحاته أربعمائة صفحة، جاء مقسماً لأربعة أقسام ومفتتح.
القسم الأول من الكتاب المعنون بـ”عن الثقافة”، تناول فيه علاقة الثقافة بالتنمية والتغير الاجتماعي، وما هو مستقبل هذه الثقافة في مصر وما هويتها، ولم يغفل الدكتور جابر علاقة المثقف بالدولة ولا تغير مكانة مصر الثقافية منذ طه حسين وحتى اليوم، بل وركز على العلاقة المتبادلة ما بين الثقافة والدولة وماذا يريد كل منهما من الآخر، وبالضرورة كان الحديث عن وسائل الإعلام وعن الأزهر وعلاقته بالمثقفين والثقافة ككل، وعن الكارثة الثقافية التي تمر بها مصر مما يستوجب حتما ضرورة البحث عن تطوير للمنظومة الثقافية المصرية حالياً.
أما القسم الثاني المعنون بـ”دفاعاً عن حرية الفكر والإبداع”، والثالث الذي حمل عنوان “ضد التمييز الديني والاعتقادي” تناولا قضايا شائكة منها على سبيل المثال- المنع وازدواجية التفكير والمصادرة وغياب الحوار وعن تراجع الخطاب الديني وصعود تيار التمييز. 
وجاء القسم الرابع والأخير من الكتاب احتلت فيه المرأة والثورة الحيز الأكبر، والثورة هنا بالمفهوم الأدبي، وليست فقط الثورة بمفهومها الذي نعرفه، إن الدكتور جابر قد غاص في ثورة 1919 اجتماعياً وثقافياً وسياسياً بشكل مذهل عن جد..”. أهم ما سعى جيل ثورة 1919 إلى تحطيمه من الأصول المتوارثة للتخلف هو التحالف بين الجمود الديني والاستبداد السياسي في آن” ص 381
ولعل ثورة الأدب هو من أمتع المقالات بالكتاب، وهو أقربها للحرية منها إلى الثقافة إذا أخذنا بعين الاعتبار عنوان الكتاب “الثورة تغيير جذري في العلاقات.. وهي تمس بعصاها السحرية كل شيء في المجتمع، وتقلبه رأساً على عقب”.. “والثورة الإبداعية سرعان ما تتحول إلى مرآة للتغيير الثوري” ص 387 وكان تطبيق جابر عصفور على ثورة 1919 وما تلاها.
بهذه التصورات الفكرية الجدلية يستمر الناقد جابر عصفور في معركته التي لم ولن تنتهي ضد ظلامية الفكر، وضد التيارات الدينية المتشددة، فالتنوير بالضرورة ليس له من عدو إلا الفكر المظلم المتشدد.

* روائي مصري

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *