الشّعر الإنساني؛ خصف الكلمات… مذاق الباطن


*عبد الحفيظ بن جلولي


خاص ( ثقافات )


يلتحق الإنسان بشأنه في عُرى المكان المختلفة، يرسم حدائق ظله في العالم ويتشكل كمدينة للسّماء أو كشيء من الغيب الإنساني في ماورائياته التي يجهل الطريق إليها لكنّه يحياها بحدوساته الملهمة، إنّه يرتمي على حدّ تعبير المتصوفة في رحابة “الذوق الباطني” الذي يشعل رميم تشكله الطيني ويبعثه حرائقا للمصفّى الإنساني في وشائج الغموض والعذوبات الممكنة في أسئلة الذوق والمدى والكلمة، الكلمة، تلك التي يحدّدها سارتر في دراسة له عن مالارميه بأنّها “طريقة امتلاك الشيء”، تلك هي الكلمة التي تندلع من أعماق النّفس، محاطة بأطياف اللغة وتوهجاتها الأنيقة، تقول الأنا الشاعر، فردا وشخصا ومدى في التّجربة والخصوصية التي لا تتمثل سوى ذاتها الممتثلة للمقول الشّعري، وذاك هو منبع الشّعر في إنسانيته المتاحة.
الشعر /ترانيم الإنساني:
عري الميلاد:
نكتشف ذواتنا في تشاركها الإنساني، وحدودها القصوى التي تشرب من نهر التاريخ، والميلاد الممكن للنبات المعشوشب داخل أوردة الأنفاق الشعرية العميقة، والممتدة في عرينا المجيد. 
لحظة قدومنا إلى العالم، هي لحظة للعري، لحظة للفرح ضمن مشتلة البكاء الأول ورخاء التمتع بهواء الكينونة العابر للذة والألم، هو الشّعر إذا في أفق الذات التي تقول فردانيتها وخصوصيتها، تتعرّى أمام نفسها، لأنّ لحظة الشّعر هي إعادة اكتشاف الذات داخل العالم، وإعادة اكتشاف لها في مواجهة العالم، لذلك فلحظة الشّعر هي لحظة عري تدمج الشاعر في فضاء عري الميلاد لتكون التجربة إنسانية بامتياز، فعري الميلاد مشترك بهيج لاقتناص لحظة البداية المفعمة بنبض الإنساني العابر للإرادة والمستقر في جنوح الفطرة الأولى. 
عرينا هو انسراب الوعي داخل لحظات التشكل الروحي في رحاب غيبية الشّاعر، العري الأوّل تدثر بورق الجنّة، وعري الشّاعر أمام مرآة ذاته يتدثر بمراسيم الكلمة.
الغموض:
حينما يتداول المتداولون أطروحة نهاية الشّعر أو موته، فإنّما يحيلون إلى غموضه، هذا الغموض الذي أصبح عائقا أمام الانخراط في لولبية القصيدة القادمة من الما قبل في غيب الشاعر والحاضرة في ما بعد الحضور المقولي له، الغموض ليس نقصا في ذاته والوضوح ليس كمالا في ذاته كما يرى أدونيس، لأنّ أطروحة الغموض تحيل إلى الرغبة في نقيضه وهو الوضوح، ومتى كان الإنسان واضحا؟ أليس هو عاشق المغامرة؟ أليست المغامرة هي الوقوف عند أفق الغامض؟ 
الغموض هنا هو دأب الشّعر الإنساني، وهو الدال على إنسانيته، فعلى طول هذا الشعر العربي والغربي كان الغموض يرتاح إلى فجوات الحيرة في رؤية الشاعر لأفق ميلاده الشعري، فالشعر دون سؤال هو محض تراكيب مرتجلة، وسؤال “لما لا تقول ما يفهم؟” مازال نابضا بميلاد الاختلاف في الشعرية العربية، و”أزهار” بودلير ما فتئت تنحت شروق الانسحاب من ظل شعرية مثقلة براهنها إلى مدى مختلف بنَفَس الإنساني. 
الذاكرة:
تتوالد لافتات الشعر المنشئة لذوق ما ليس هو بمادة، وليس بشيء يتحسّسه اللمس ويجده الشم، هو رسم للكيانات لكن بلغة الطيف، الشعر هو مادة الذات حين تتعمق عشق القصيدة، لأنّه في البدء والمنتهى كان للشاعر “ذاكرة التخيل النشطة”، كما يقول خوان غويتيسولو، “تسمح له بالهجرة من العالم المحسوس إلى المتخيل، العبور من الصمت إلى الغناء دون أن يكسر من أجله الصّمت الخالق للقصيدة، هذه الذاكرة هي التي رسّمت إنسانية الشعر وجعلته نهرا خالدا يبث خريره عبر السّماع في الأدغال النفسية العميقة التي لا تضيئها سوى الكلمة، وتلك هي الكلمة التي نبتت على جدران القداسة في الكعبة المشرّفة في صحراء نجد، حيث الصخر لا ينحني سوى لقصيدة تنتعل حفاء صعلوك أو شاعر هام في عشق امرأة تتدثر القصيدة في تحولاتها نحو النّهايات المفجعة، إنّها المعلقات التي آلت للإنساني بفعل مهارة الخطاب التائه في الصّحراء المجملة برموز الكلام وعراء المكان وغيبيات النبوة . 
المحبة / وجدان الشّعر ولطائف الإنساني:
تأتي من بعيد من غور الجمر محمّلة بالعشق الإلهي، ممهورة بتلافيف ردائها الأنثوي الباهر، تأتي معتّقة بروائح الشّعر الكامن في رهافة النص المنتصر في شهرزادية التاريخ الآخذة بلب الشهريارية العنيفة، تأتي رابعة من خلود الجدوى في متاهة الشّعر النافعة، تحمل مرودا للمحبّة وحدوسا دائمة للجسد:
ولقد جعلتك في الفؤاد محدّثي وأبحت جسمي من أراد جلوسي
فالجسم منّي للجليس مؤانس وحبيب القلب في الفؤاد مؤانسي 
إنّه الشّعر والصفاء في عمق النفس حين لا ترتاح سوى لنبض المحبة، تلك التي فاض بها ابن عربي في بهو الحال لما اشتاق وسقا وبالعشق ارتقى ورام محبّة للإنسان كيفما كان، ففي النص الملتقى:
أدين بدين الحبّ أنّى توجّهت ركائبه فالحبّ ديني وإيماني
هو الشّعر إذا حينما يترتب كما الكلمات في نبضها المماثل لقلوب العشاق حين يتواءمون في الانتظار مسترشدين فقط برقائق المحبّة، فالمحبّة عند ابن عربي ترتقي لتكون دينا، وما الدّين في جوهره سوى تلك المحبة، لهذا كان الشّعر رمادا أنيقا من خمودات النار الملتهبة في جوانح الماثلين أمام منشورات المعنى.
إنّ الشّعر هو ماء الإنسان من حيث كون هذا المخلوق يظل باحثا عن شيء لا يمكن أن يصله سوى من أبواب الرّوح التي لا يمتلك سرّها، وهو أيضا لا يمتلك سرّ سماوات الشّعر، لذلك هو دائم البحث عن ما يقرّبه من الحياة ليصل إلى نفحة من إنسان على بوابات الكلمة، فــ “القاعدة العامة التي تجمع كل هؤلاء الرغبة في كتابة القصيدة الأقرب إلى الحياة”، والحياة هي الجامعة لأرواح الشّعراء العابرون إلى مناطق الصّمت والخلوص المتحقق في الخروج إلى الإنسان، الشّعر هو بوّابة الإنسان الأولى والجوهرية، كل خروج يكون إلى لا شيء، واللاشيء الممكن يكون الخروج إليه من بين الكلمة في أسطر الشّعر المجيدة بنَفَس المحبة والإنسان، اللاشيء هو فتنة العشق حين يبحث الشّاعر عن علامة للقاء والمحبّة والحياة، ولنستمع إلى “خوليا كاستيو” في قصيدة “فتاة ترتدي الجينز”: 
“عبر كل القرون/قفزا على كل الكوارث/قفزا على الشعارات والتواريخ/تعود الكلمات إلى عوالم الأحياء/تسأل عن بيتها”.
هو بيت اللغة في مسكنها الوجودي، بفهم هايدغر، والكلمات حين تعود فقط لتبحث عن بيتها، فهي تفعل ذلك لتسترد معناها المفقود، ولتكون القاسم المشترك بين البشر، تعود لتجعل من التعبير بهاء إنسانيا خالصا، تعود الكلمة لتنسج منوال الثقافة الحالمة بالإنسان، بالكائن السّاكن فضاء الأقبية المفتوحة على الرّوح والمعنى والدلالات العميقة، “فالحق أن عالمنا هو عالم من المشاركة، والثقافات المتقاطعة التي تمتلك علاقاتها ونزاعاتها من الثراء الفتان ما يمتلكه التاريخ الإنساني عينه” كما يرى ادوارد سعيد في سيرته الذاتية “خارج المكان”.
التّجربة معيار الإنساني:
يساءل الشّعر مراتع الحلم والخيال والواقع والكينونة، يرميها بشواظ الكلمة، يفتح أنسجتها النّاسغة للحياة على أسئلة الحياة، على تفاهاتها ومفرداتها المهملة، فيجعل من سلة القمامة رسما لكينونة ضائعة بين أشكال الكلمة في تموجاتها الدالة وأسطرها الخارجة لتوّها من “امبراطورية العلامات” والرّموز، الشعر هو هذا الذي يجعل من الحركة في العالم والتاريخ منتصرة للتجربة، متداولة بها، صانعة بنغمها أرجوحة للأطفال الغابرين في الأزقة وتحت أنقاض الحروب وحدائق الأمل في الأوطان السليبة.
يتساءل أدونيس في إحدى قصائده عن مقدرة الشّعر:
“ماذا يقدر أن يفعله الشعر لتاريخ ينام/إنّها الأمة ترتاح إلى أشلائها/وعلى الجدران تاريخ ينام/ليس هذا وطنا/هذا ركام”.
التجربة وحدها هي القادرة على تحريك ماء الشّعر وترسيمه سريانا أبديا وخريرا مفعما بالحياة داخل أنساق الوجود والكينونة، لذلك يعيد غاستون باشلار الاعتبار للشّعراء في “شاعرية حلم اليقظة” في تساؤله: “بدون مساعدة الشّعراء، ماذا يمكن لفيلسوف محمل بالسنين فعله وهو يصرّ على التكلم عن الخيال؟”.
الشاعر يتخيل، يحترف الخيال، لا يمكن أن يعيش برهة العتمة دون التملص من ردمها والخروج إلى نوافذ المخيلة كي يرى أمداءه القصوى المتشابكة مع العالم ومع خصوصيات أخرى لا تنكشف سوى له.
يعبر الشاعر من المحسوس إلى اللامحسوس، يُشعرن العالم لحظة هروب لذيذ في الأشياء، يكلم أبعادها، يجرحها بماء المعنى، يتستر على موبقاتها ليقولها بغنائيات الكلمة المنتظمة داخل السّطر الشعري المتمرّد على النظام والخالق لنظامه الخاص، وهو ما يمنح الشّعر انفلاته الدافئ في غور أغصان شجرة الإنسان المدجّجة بحمولات الجسد والدم وكثير من الآلام والآمال والعقل القابض على جذوة العدل في الوجود، لأنّ العقل كما يقول ديكارت “أعدل الأشياء توزعا بين الناس”، و “عقل الشاعر في لحظات.. يوفق إلى نظرة نافذة إلى قلب الحقيقة، فيقرأ الطبيعة رمزا لشيء وراءها، أو لشيء داخل الطبيعة لا ينكشف بالشكل العادي”، طبقا لرؤية ريشاردز. 

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *