الفيلم الكوري «صواب الآن، خطأ في ما بعد»… هشاشة العلاقات الإنسانية


*عبدالله الساورة



الرباط ـ  ثلاثة معايير أساسية لنجاح فيلم ما: احتفاء جماهيري، ونقدي وحصيلة ثقيلة في شباك التذاكر…هذا ما استطاع أن يناله فيلم المخرج العالمي الكوري الجنوبي المخضرم هونغ سان- سو بفيلمه الأخير «صواب الآن، خطأ في ما بعد» ( 2015/كوريا الجنوبية)، الذي تحصل على جائزة الفهد الذهبي في مهرجان لوركانو (الدورة 68/ 2015)، ومشاركته في العديد من المهرجانات السينمائية الدولية….
يعتبر المخرج هونغ سان- سو الأفضل بين زمرة المخرجين السينمائيين في كوريا الجنوبية.. فالمخرج يمنحنا فيلما بهديتين: الأولى جيدة جدا والثانية رائعة. يتعلق الأمر في الواقع بشكلين من القصة، الأولى باطلة ومزيفة ومستترة والثانية صادقة وحقيقية. 
المخرج هام تشوسو، بطل الفيلم، سينمائي مشهور، يصل من العاصمة سيول إلى مدينة صغيرة «سوون» لإنجاز مشروع فيلمه الخاص، والمشاركة في بعض الأنشطة هناك. وبما أنه وصل بيوم سابق عن موعده، وبزيارته للمركز السياحي يلتقي (يوون هيجونغ)، شابة وحيدة عزباء، اشتغلت سابقا عارضة أزياء وتحولت إلى فنانة تشكيلية. 
بين الغزل والإطراء، والتجوال في قلب شتاء ينخر العظام، يذهب المخرج رفقة الفنانة التشكيلية إلى حلبة للتزلج على الجليد، ويحتسيان قهوة في أحد المقاهي، ويشاركها في معرضها المنزلي، ويبدي إعجابه بلوحاتها، ثم يتناولان وجبة العشاء (السوشي) مع الكثير من الأرز بطبيعة الحال في حفلة بين أصدقاء الفنانة… لكن كما هو واضح لا شيء يبدو غريبا حتى اللحظة.. لتأتي المفاجآت تباعا.. أن الرجل متزوج وله طفلان (لم يخبرها الحقيقة)، سكير، فاسق، وزير نساء.. مع ملاحظة أساسية أن الفيلم ينقسم إلى جزأين، وأن الجزء الثاني يبدأ بطريقة مماثلة للجزء الأول.
في مشهد بليغ ومكثف من فيلم «صواب الآن، خطأ في ما بعد» يبرز بطل الفيلم، مخرج سينمائي يدعى «هام» في حوار مع مجموعة من صديقات الفتاة التي يطلب ودها وارضاءها، المدعوة «يوون»، وهي فنانة تشكيلية، قالت لصديقاتها، إن «هام» قال لها شيئا عميقا عند رؤية لوحاتها: «لم تقرري بعد ما الذي تبحثين عنه عندما ترسمين، لكنك تعرفين اكتشاف أشياء في الطريق». ومع ذلك واحدة من صديقاتها المفتونة بسينما هذا المخرج وتنتظره بلهفة وشغف تقول له: «متأسفة سيدي، ولكن أليس هذا ما تكرره في كل مرة حينما تلتقي بفتاة وحينما تتحدث عن أفلامك؟». 
ما يمكن تبيانه واكتشافه يأتي في ما بعد. الصورة التي يسعى المخرج لأن يقدمها عن نفسه. بهذا التفصيل الممزوج بالنكتة بطرح سؤال بالغ القسوة كيف يحترم المخرج هونغ سان سو سينماه الخاصة؟ على اعتبار أن أفلامه تتكلم عن ذاته بنوع من القسوة في الطرح. 
لا يختلف هذا العمل السينمائي للمخرج هونغ سان سو عن أعماله السابقة، فالعديد من الوضعيات سوف تكون عائلية بامتياز، حضور العلاقات العاطفية العابرة، محاولات الإغواء الخرقاء والدائمة من طرف شخص ذكوري، الحوارات الطويلة المستحمة في خمور الأرز الكورية. ثم التغيير في التصميم بين مختلف أجزاء الفيلم، الشخصيات تنتمي إلى العالم السينمائي والفني والاستخدام حد الهوس للقطات الثابتة ولقطات (الزوم) كأنها الحركة الوحيدة التي يجيدها المخرج من حركات الكاميرا.
في الفيلم يمكن أن نرى خلاصة وافية من المخاوف الجمالية والموضوعاتية التي تعيش في فيلموغرافية المخرج. قمة إبداعية يمكن أن تتبعها دورة تحول في حياة المخرج المهنية. فالمخرج لا يجد غضاضة في كشف عالمه الشخصي، وحقائقه العابرة، القابلة للاهتزازات، التناقض في العلاقات الإنسانية وهي الموضوعة الكبرى التي تدور حولها أفلامه الثمانية عشرة، المعنونة بالفشل أو عدم الإمكانية في تحقيق معرفة صادقة حول الأخر.. وهشاشة الدعامات والأسس التي يترتب عليها ذلك. 
بالفعل جملة «هام» التي ذكرناها سابقا، هي رائعة، قابلة للتطبيق في طريقة المخرج: لا هدف.. هكذا إذن، لا يهم إن كان هناك حزن شخصي. هذه هي حالة المخرج في طرق هذه العلاقات الإنسانية الهشة. ليس المقصود بها انتظار قراءة نهائية للموضوع، لذلك ففيلم «صواب الآن، خطأ في ما بعد» لا يقيم أي شيء سوى إضافة حركة إلى هذه السيمفونية لهذا المخرج العالمي، لمتغير يتناول الإنتاج العام لفيلموغرافية هذا المخرج من كوريا الجنوبية. سمفونية مفتوحة دائما حيث الأجزاء الجديدة تتأسس على الأجزاء السابقة، لكنها بحوارات تضخم الأصداء الخاصة لأبطاله وشخصياته. 
يمنح المخرج تطورا لأساليب السرد الفيلمي الأكثر شيوعا: تقسيم الفيلم إلى مقاطع مختلفة بشكل واضح حيث يكرر بعض العناصر ويغير من بعضها. فينحو فيلم «صواب الآن، خطأ في ما بعد منحى فيلمه السابق «في البلد الآخر»، اختيار لتكرار الأجزاء نفسها للمقطع نفسه، الشخصيات ذاتها ونقطة البداية نفسها، واستكشاف تغيراتها انطلاقا من تفاصيل صغيرة دقيقة تؤثر على تطور السرد الفيلمي. 
في الجزأين نفسيهما، الطابع الرئيسي هو المخرج «هام» المدعو إلى المدينة لتقديم أحد أفلامه، أثناء تجواله وتعرفه على الفنانة «يوون» ومحاولة إغرائها…الفرق بين المقطعين ومن تكرار هذا المشهد هو الموقف الذي يريد أن يبرزه «هام» في استراتيجية الإغواء. في المشهد الأول تبقى «يوون» مندهشة ومعجبة بالمخرج، بالعكس في المشهد الثاني المكرر تبدو «يوون» مترددة نحوه، ويظهر هو أكثر وضوحا، وهو الشيء الذي يسمح بانتقاد جوانب من لوحاتها. ومع ذلك هذا الصدق هو ما ينهي الأمر، بدفع الفنانة وصديقاتها في المشهد الثاني من الحكاية إلى إبراز انعدام الثقة تجاه سحره. 
الاختلاف بين المقطعين ليس سهلا جدا كما يتوقع، فبينما يقحم المخرج تفاصيل صغيرة (مثلا الخاتم الذي يجده «هام» في المقطع الثاني، بعد أن تأسف أنه لم يملكه في المقطع الأول)، وهذا يعمل كإشارات غامضة لضمان الاستمرارية بين المقطعين، ولخلق ارتباك لذيذ لدى المتلقي. كما هو الشأن في فيلمه «وصول اليوم»، وهي قصة تجري خلال أيام، وهو يوم يعاد بطريقة مختلفة ومتعددة..
* * *
السؤال الذي يطرح في فيلم «صواب الآن، خطأ في ما بعد» هل شخصية المخرج «هام» هي الشخصية نفسها في كلا الجزأين ؟ ظروف شخصية المخرج التي يمر بها وطريقته في إغراء «يوون» هي نفسها، ولكن في كل مشهد يظهر شيء صغير عن البطلين. ويبقى السؤال ما هو الجزء الذي يطرح اختلافا واضحا على شخصية المخرج «هام» بين الجزأين؟ الذي يعبر عن شخصيته بشكل كبير وفعال؟ فقط حالته حينما يعي أخطاءه التي ارتكبها لأول مرة، حينذاك تظهر كل الإمكانيات والاحتمالات صالحة. فالمخرج هونغ سان – سو لا يطرح أجوبة جاهزة.. إنها العشوائية في العلاقات الإنسانية الناجمة عن استحالة معرفة صادقة وحقيقية عن الآخر. 
فغالبية أفلام المخرج تحكي قصص حب فاشلة وحزينة، وتقحم موضوعة السينما والفن عموما كما في فيلم «صباحات هادئة»، حين يحكي عن مخرج شاب وفشله في صنع الأفلام. ومن عادة المخرج أنه يشتغل بدون سيناريو كامل ويشتغل فقط انطلاقا من مجموعة من الملاحظات يدونها أثناء التصوير وبطاقم فني صغير. وتلاعبه بالزمن السينمائي والواقعي بأشكال مختلفة، فالمخرج هونغ سان- سو (25 اكتوبر/تشرين الأول 1960 في العاصمة سيول) منذ فيلمه الأول «يوم سقط الخنزير في البئر» ( 1986)، الذي عرف نجاحا جماهيريا ونقديا انطلقت مسيرته السينمائية من خلال مجموعة من الأفلام أبرزها «حكايا السينما» (2005)، «نساء أصدقائي» (2009)، «مهمة» 2010 «في البلد الآخر» (2013)، «جهنم الحرية» (2014).
موضوع يحضر في سينما هذا المخرج الرومانسية بشكل واضح، سواء «الحب الغامر»، وهي الطريقة الوحيدة الممكنة لمتابعة لحظات صغيرة بين الوفاء العاطفي في هذه الفوضى اللامحدودة. 
يقترب المخرج في نهاية الفيلم من هذه الأسرار الكبيرة في العلاقات الإنسانية في عالم غير مستقر ومتغير، ليمنحنا بأبعاده المكانية والزمانية وشخصياته عملا رائعا في تعقيداته البسيطة.
_______
*القدس العربي

شاهد أيضاً

العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية

(ثقافات) “طربوش أبو عزمي العلي”:   العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية زياد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *