في نقد النقد الفلسطيني




جهاد الرنتيسي


خاص ( ثقافات )


يجافي بعض النقد الأدبي الفلسطيني حقائق موضوعية بولوجه باب المقارنة بين نص روائي وآخر بحثاً عن تقليد أو تناص، وتظهر المجافاة بشكل أكثر وضوحاً لدى تناول روايات صادرة في أزمنة مختلفة تعرضت لموضوع أو فترة زمنية محددة، وما قد ينجم عن التعرض من توارد أفكار وخواطر في الأعمال الخاضعة للمقارنة.
لأسباب يعود معظمها إلى اتساع ونضج تجربته وأدواته الفنية، ووضوح رؤاه، وفعله النضالي المتوج باستشهاده، والمساحة التي حظي بها في ضمائر أجيال لاحقة من المبدعين ومتلقي الإبداع، تقدمية ونقاء الفكرة التي تضمنتها أعماله، يبقى غسان كنفاني وإبداعاته الروائية الأكثر استحضاراً لقياس مستوى الإصدارات الجديدة، والتعرف على إخفاقاتها ونجاحاتها. 
لكن توفر شروط النموذج الذي يقاس عليه في التجربة الكنفانية لا يعني جدوى الدخول في مقارنات تنطوي في معظم الأحيان على إجحاف بحق نتاجات كنفاني، وتلحق ظلماً كبيراً بالنتاجات التي تتم مقارنتها بها.
من بين الدوافع التي تفضي إلى مثل هذا الاعتقاد اختلاف المناخات الفكرية والسياسية والاجتماعية التي جاء النموذج الكنفاني في سياقاتها عن مناخات وسياقات النتاجات الصادرة بعد عقود.
فقد عايشت إبداعات كنفاني الروائية وغير الروائية انفتاح المنطقة على مواجهة “كسر عظم” مع أشكال التخلف والتبعية والهيمنة كان الفلسطينيون من بين طلائعها، الأمر الذي لم يعد قائماً في ظل تفسخ عربي وسلطة فلسطينية لها دورها الوظيفي في حماية أسباب ضعف وتخلف المنطقة.
وفي الزمن الكنفاني كانت هناك امتدادات لخصوبة تفاعل ثقافي وأيديولوجي مع الآخر “الغربي والشرقي” لا توفرها إفرازات زمن ما بعد نهاية القطبية الثنائية وتمدد الإسلام السياسي والإيغال في التجاذبات المذهبية والطائفية.
بالتالي عبرت التجربة الكنفانية عن حالة نهوض ثقافي وسياسي واجتماعي مرت بها المنطقة العربية في الوقت الذي تنعكس فيه مناخات الانكفاء متعدد الأوجه على أجواء معظم الأعمال الروائية الفلسطينية الصادرة في السنوات الأخيرة.
كما حدثت خلال العقود الماضية تطورات على طرق السرد وكيفية تناول الأحداث والموضوعات الممكن تناولها.
تكاد الروايات التي تجري مقارنتها مع إبداعات كنفاني أن تنقسم بين التسويق لفكرة سياسية تعبر عن هزيمة “سياسية ـ ثقافية ـ معرفية” تمر بها المنطقة لينسجم العمل الروائي مع فلسفة السلطة، وفي هذا السياق تندرج روايات يحيى يخلف وربعي المدهون وأخرى خارجة أو تحاول الخروج من معطف الكنفانية المفترض بنقدها للتراكمات التي أوصلت إلى الهزائم التي لحقت بالإنسان والقضية، ويمكن الاستدلال على هذا النمط من الكتابة في روايات عباد يحيى وسامية عيسى، وبذلك لا تنتمي هذه التجارب إلى الزمن الكنفاني بقدر ما تنتمي إلى زمنها الخاص، وتدور أسئلة الاختلاف والتشابه في مثل هذه الحالة حول سلطوية النص ومدى تسليمه بالهزيمة الواقعة على الفلسطينيين والعرب رغم احتفاظ هذه الأسئلة بأسباب المقاربات الجمالية والمعرفية، مما يجعل المقارنات أكثر جدوى في حال حدوثها بين روايات صدرت في سنوات متقاربة.
إذا افترضنا حسن النوايا التي تقود إلى جهنم في بعض الأحيان تندرج محاولات بعض النقاد في سياقات أقرب إلى محاولة مقارنة سلوك الابن بسيرة الأب دون أن يوضع في الذهن اختلاف الظروف التي اثرت في شخصيتيهما، وفي حال الابتعاد عن هذه الفرضية سنجد استجابة لضرورات تشويه الأب على أمل إخفاء عقوق الابن، ولا يخلو الأمر في بعض الأحيان من كسل ذهني يحول دون البحث في الجوانب المعرفية والجمالية للعمل الروائي المراد قراءته.
ثمة حاجة لإبعاد أدوات نقد الأدب الفلسطيني عن الحسابات الفصائلية والسلطوية الضيقة التي اعتادت التهوين من نزاهة النقد وأدمنت تحويل تلميع الأدب الرديء إلى حرفة يتطلبها حَرف الإبداع عن وظائفه المفترضة وتعميق حالات التعايش مع الهزيمة بتشويه رموز مقاومتها.

شاهد أيضاً

أبورياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع لإنارة الطريق

الأديب موسى أبو رياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *