كان يا ما كان لبنان…


*غادة السمان



لقيت رسالة من د. أحمد .ط على رقم الفاكس (المذكور في كتبي كلها) لمنشوراتي يهاله فيها كطبيب نفساني إقدام طبيب أمريكي على مساعدة «جول شوبنغ» لتحقيق حلمها بفقدان بصرها ولم يعالجها بل أذعن لجنونها. 

وأنا آسفة لجنونها ولكنني مستفزة بسلوك لبناني مشابه لدى البعض، الذي يبذل جهده لإلغاء بصره التاريخي وبوصلته وبالتالي إلغاء نفسه بالعزوف عن انتخاب رئيس للجمهورية، وهو شبيه في أذاه السياسي (وعماه الوطني) بسلوك تلك الخرقاء، وأخشى أن يأتي يوم نقول فيه «كان يا ما كان لبنان». واستعير قول/بولنوار قويدر ـ الجزائر/ الذي يختم به معظم رسائله لي 
بالقول: ولله في خلقه شؤون! لن أفهم يوماً كيف تغتال فئة وطنها وهي تستمد أهميتها من انتمائها له (حتى بالمولد لا بالقلب)!
المبدع (الذكر) ليس أقل «عاطفية أبجدية»
الكروي داود ـ النروج كتب مؤكداً «الفرق الواضح» بين الأدباء الذكور والإناث.. يا عزيزي، تقول إن المرأة أكثر عاطفية وخيالية، ولكنها مزايا يملكها «الرجل المبدع» أيضاً في كتاباته وعلى نحو أكثر عمقاً من كتابات (نسائية) غير موهوبة. هل تنقص العاطفة المشبوبة كتاب (الذكر) باسترناك في روايته «دكتور جيفاكو» الذي كرهه النظام الشيوعي الغابر وعشقه القارئ ولجنة جائزة نوبل التي منحته الجائزة؟
أليس في مناجاته للحبيبة لارا وهو يخط أشعاره على ضوء الشمعة في البرد والعزلة والوحشة ما هو أكثر (عاطفية) وخيالاً مما نصفه أحياناً «بالكتابة النسائية» بل وأكثر مما كتبته فائزة اخرى بجائزة نوبل مثلاً هي توني موريسون؟ ما أحاول دوماً توكيده هو أن المقياس هو الإبداع لا ذكورة حامل القلم أو أنوثته بل «إنسانيته» وأتساءل وأنا أطالع قولك «الاديب الرجل يحب بواقعية» هل يحدث ذلك حقاً لقلمه؟ وهل نظرة الاديبة/الانثى أكثر بعداً كما ترى؟.. من طرفي اعتقد انه ليس للابداع «اعضاء» مؤنثة او مذكرة، والنبض الإنساني هو المفتاح وقد أكون مخطئة فأنا لم أكن يوماً أصولية مع قناعاتي ومنفتحة للحوار الراقي أبجدياً.
أما الاستاذة د. لطيفة حلـــيم فأتواصـــل معها منـذ زمـــن ما قبل (الإنترنت)، وكبومة بعينين يتعبهـــما الضـــوء لم أستطع مجاراتها في التواصل (بالويب) ولكن لغة القلب واحدة.. ولها دوماً آراء ثاقبة في موضوعات جــنون زمننا العربي، كما الصديقة العراقية الكندية آفانين كبة التي تعلق بعمق كل أسبوع على ما أخطه بمتابعة محببة تبهجني وأجدها لدى العديد من قرائي.
بسمة شيخو.. أرفضي وتمردي..
في اتصال هاتفي مع شابة سورية وضبت كتابها الأول هي بسمة شيخو، طلبتْ مني الاطلاع عليه وكتابة المقدمة! وقلت لها: لن أفعل ذلك. ولا تدعي سواي يفعل ذلك. دعي كتابك يقدم نفسه ليراه القارئ بعينيه هو لا بعيون الآخرين.. أرفضي العيون المستعارة، ولا تفرضيها على القارئ فهو يشاركنا في تأليف ما يطالعه لنا، لأنه يعيد كتابة بعضه داخل رأسه بعينه الخاصة وعلى نحو يجدد حياة نصوصنا، وعلينا ألا نفرض عليه منذ الصفحات الأولى عيوناً مستعارة حتى إذا كانت لأدباء معروفين. وذكرت لها أيضاً في مخابرتنا الهاتفية ان قريبي الشاعر نزار قباني الذي كتب قصيدة رثاء رائعة في تأبين أمي الأديبة التي كانت ترضخ للضغوط الاجتماعية وتكتب باسم مستعار قرأها في الحفل التأبيني لها في «مدرج جامعة دمشق» ولم أحضرها إذ كنت طفلة لا تعي شيئاً بعد، هذا (النزار) كان سعيداً بتمردي الأدبي وهو الذي دبر لي لقائي الأول مع ناشري الدكتور سهيل ادريس صاحب «دار الآداب» البيروتية الشهيرة وزوجته الأديبة عايدة مطرجي وكانا في زيارة إلى دمشق واصطحبني إليهما في فندق في «ساحة المرجة» الشامية ووافقا، على اصدار كتابي الأول «عيناك قدري» وطرت فرحاً.. وحين خرجنا من الفندق قال لي نزار قباني بحماس انه سيكتب لي المقدمة بلهجة من يقدم لي هدية، وفوجئ بي وأنا أقول له: لا أريد ذلك. أريد ان يطالعني القارئ بعينيه هو لا بعينيك!.. وبدلاً من ان يغضب نزار كما توقعت قال لي: انا سعيد لأنكِ لا تريدين عكازاً.. لن ينجحوا في قتلك كما قتلوا أمك!..
ولاحظي يا بسمة انني في كتبي الخمسين لم أنشر (مقدمة) واحدة بقلم مشهور أو مغمور. فأنا ضد ذلك! والكتاب يقدم نفسه.
لا تخافي.. لا شيء حقاً يدعمنا إلا أبجديتنا..
ماذا عن الشهيد كنفاني؟
في رسائل جميلة مؤثرة صادقة النبض لامني البعض في تلميحات حول تعاملي والشهيد المبدع اللامنسي غسان كنفاني، وطرحت الكثير من الاعتراضات على سلوكي المتأني وأجد فيما كتبه العلاّمة الكبير الراحل د. إحسان عباس إجابة مختصرة على ذلك كله حين كتب يقول يوم قرأ رسائل غسان كنفاني لي:
«وتشهد لغادة هذه الرسائل بأنها كانت حريصة على ان لا تحطم البيت العائلي على رأس غسان كما انها كانت حريصة على ان تظل العلاقة علاقة حب نقي». وتلك هي الحقيقة ببساطة، ولا بقية لمستزيد!..
انتقل إلى عمرو ـ سلطنة عمان الذي يحن إلى بيروت التي احتضنت محمد الماغوط واحتضنتني (وسواي من الادباء الكثيرين) ويقول إن حلم طفولته كان العثور على آلة الزمن للعودة إلى (بيروتنا) وللتأكد من حقائق تاريخية، وذلك جميل..
ولكن ضميري يا عمرو لا يطاوعني على تحريضك على المجيء إلى لبنان الآن.. وكان يا ما كان لبنان.. عاصمة الحلم العربي وعاصمة الحرية العربية والابداع.. أما اليوم فلبنان جائزة ترضية على شطرنج الأمم يتبرع به بعض ابنائه دون ان يرف لهم ضمير.
واختم بشكري لأحمد اسماعيل ـ هولندا الذي دافع عني في إجابة للهادي الغربي ـ وهران موضحاً انه في المشرق سبع أرواح تعني القطط لا الكلاب!!..
___
*القدس العربي

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *