شبابيك الرجاء


*د. حسن مدن


قال كاتب عربي -لا يحضرني اسمه الآن للأسف- إنه تهب عليه نسمة من الحزن في نهاية كل عام. نسمة من الحزن الهادئ، لكنه ليس حزنا تعسا ولا أسود. شدني ما قاله الرجل. أظن أنه لامس في نفوسنا منطقة مشتركة، حين اقترب من ذلك الحزن الذي يغمرنا إزاء وداع سنة قديمة واستقبال سنة جديدة.
شبه ذلك الكاتب حزنه بالبحر من حيث العمق والاتساع، بهشاشة الأشياء أو عظمتها، لا فرق. وهذه الحيرة ناجمة عن تضارب أو تناقض المشاعر التي تنتابنا: هل مصدرها أننا نخسر زمنًا، نخسر سنة من العمر أم أنه ناجم عن أننا ننفض عن كاهلنا حملا ثقيلا، فنحس ما يحس به المثقل بالأشياء التي انزاحت عنه، فانتابه شعور بالخفة والرغبة في الطيران؟ أم أن الأمر لا يعدو كونه وهمًا، فلعل أجواء الاحتفالات بانقضاء سنة ومجيء سنة أخرى هي ما يخلق لدينا هذا الشعور بالبهجة الطاغية التي لا تفلح في إزاحة ذلك الشعور بالحزن الهادئ في نفوسنا؟!
ليكن الأمر وهمًا. بوسعنا أن نخلق من الوهم فرحًا؛ لأننا نريد ذلك ونشتهيه؛ لأننا نريد أن نجعل من العام الجديد عامًا للفرح، ونهفو إلى ذلك ونسعى صادقين وراءه، كأننا مأخوذون بالرغبة في أن ننجز في العام التالي ما لم نستطع إنجازه في العام الذي انقضى أو في الأعوام التي انقضت، لذا يبدو الحزن الهادئ الذي عناه الكاتب شيئا من تطهر النفس من أعبائها ومتاعبها، فالفاصل الزمني اليسير بين عامين – وهو فاصل من الزمن لا يكاد يدرك أو يحس لفرط قصره، يكثف في نفوسنا المشاعر الحائرة المشتبكة بين الحزن والفرح، بين السعادة والأسى، بين القنوط والأمل، لكننا حتى في أقسى لحظات القنوط التي يمكن أن تنتابنا لهذا السبب أو ذاك، نكون قد عقدنا العزم، في أعماق ذواتنا، ألا نرضخ لهذا القنوط، إننا نضمر النية حتى لو لم نعلنها على أن نبقي أشرعة الأمل منشورة، وشبابيك الرجاء مفتوحة على أفق أخضر ندي.
من النادر أن تسعفنا الحياة بلحظات للتأمل والتبصر في أنفسنا، في ما نريد وما لا نريد، في الذي أنجز من طموحاتنا والذي لم ينجز، بل ربما تعين علينا أحيانا أن نصدم أنفسنا بالسؤال القاسي والصعب: من نحن وماذا نريد؟!.
ويبدو أن لحظة توديع عام واستقبال عام جديد هي من تلك اللحظات النادرة التي بوسعنا أن نفاجئ أنفسنا بأسئلة مثل هذه، أن نشعر بالحزن الهادئ الذي عناه الكاتب، فذلك أمر عظيم، أنه دليل يقظة الروح وعدم موات الأحاسيس في نفوسنا، ربما لأن هذا الحزن الهادئ هو بحد ذاته أمارة من أمارات الفرح والبهجة الخفية أو الرغبة فيهما، أمارة من أمارات أننا «نحب الحياة ما استطعنا إليها سبيلا»، وأن جذوة الكفاح في دواخلنا ما زالت حية، قوية، تمنحنا الحماية من اليأس ومن الاستسلام لواقع لا نرضاه، ولا يحقق لنا ما هيأته فطرتنا الأولى لأن نكونه، ولأن نأخذه.
هل نحن في الأربعين، أو في الخمسين من العمر غير ما كنا عليه في الثلاثين أو العشرين ؟!
تتفاوت الإجابة عن هذا السؤال تبعًا للزاوية التي سيتم من خلالها النظر إلى الموضوع. ولكن في مطلق الأحوال، فإننا لو حسبنا فقط حساب الخبرة والتعلم من الحياة الذي تكسبنا إياه السنوات، سنغدو ميالين للإجابة عن السؤال أعلاه بالإيجاب. أي أنه يفترض أننا في الأربعين أكثر نضجًا ودراية ومعرفة بالحياة مما كنا عليه قبل عشر سنوات، في الثلاثين من عمرنا، وإذا ما استمررنا بهذه الروح من الرغبة في تطوير معارفنا ومهاراتنا ومداركنا، فإننا في الخمسين، ومن ثم في الستين، سنغدو أكثر نضجا وحكمة مما نحن عليه في الأربعين.
تقودنا إلى هذه الفكرة قراءة القصة الطويلة للأديبة الكبيرة الراحلة الدكتورة لطيفة الزيات الموسومة: (الشيخوخة). لقد كتبت الكاتبة هذه القصة وهي في الخمسين من عمرها. والقصة عبارة عن يوميات تسجل فيها امرأة تفاصيل حياتها اليومية ومتاعبها وهواجسها وأفراحها الصغيرة. ثم إنها -أي لطيفة الزيات- تركت هذه الأوراق جانبا، وضاعت بين زحمة أوراق منسية، ولم تعد إليها إلا بعد عشر سنوات على كتابتها، أي عندما أصبح عمرها ستين عاما، وتقول إنها حاولت تعديل تلك اليوميات لتعبر عن منظورها الراهن للحياة كامرأة وكاتبة، فاكتشفت استحالة ذلك، حيث أن كل شيء يتغير ويتبدل خاصة في المرحلة المتقدمة من العمر، ومنظور امرأة في الستين هو غير منظور امرأة في الخمسين «وإن اندرج الاثنان في كل متعدد الجوانب متناقض الوجوه يلقى التصالح في نهاية المطاف»، لذا فإنها قررت أن تنشر تلك المذكرات كما هي، مضيفة إليها بعض ملاحظات توافرت لها بحكم السن والخبرة، فما من تجربة شعورية تتكرر على الصورة نفسها، وما من تصوير لتجربة شعورية يمسك بحقيقة في كليتها ولا في حركتها الدائبة.
إلا أن الباعث على الفضول في الأمر هو: كيف ننظر من شرفة عمرية تالية إلى مرحلة عمرية سابقة. كيف ننظر ونحن في الخمسين مثلا، أو في الستين إلى ذواتنا عندما كنا في الأربعين أو كيف كنا نبدو ونحن في الثلاثين من عمرنا عندما ننظر إلى ذلك من شرفة الأربعين؟!
عن هذا السؤال تجيب لطيفة الزيات الستينية وهي تتحدث عن لطيفة الزيات الخمسينية: «تربكني المرأة في الخمسين التي تطل علي من هذه اليوميات وتفرحني وأنا في الستين. تفرحني بقدرتي على التجاوز، وتربكني بحدة مشاعرها واستطالة هذه الحدة. أفتقد في يومياتها ضحكتها التي تجاوزت بها كل شيء، وأعرف الآن أن لحظات تعاستها قد اندرجت في عشرات من لحظات الفرحة والحماس والاهتمام بما هو خارج عنها».
وبما أن الحديث في القصة يدور عن الشيخوخة بالذات، فإن الكاتبة تصل بنا إلى قناعة مبهجة، فحواها أن الإنسان لن يستشعر أبدا برد الشيخوخة ولا الإحساس بانعدام الوزن ما ظل يناطح، يقبل تحديا ويتجاوزه، يتبين منتشيا ومحتضنا للذات المزيد من القدرة على المناطحة، على المعرفة وعلى التوصل لهدف. لا يشيخ الإنسان طالما ظل عقله يضفي على وجوده المعنى، يغنيه بهذا الوهج المتواصل الذي لا يشتعل فجأة ويخمد، الذي يدفئ ولا يحرق، هذا الوهج الأزرق الهادئ هدوء اليقين».
لا نظنها مبالغة لو قلنا إن كل امرئ في هذه الحياة الدنيا هو بمعنى من المعاني مراقب لما يدور حوله من أحداث وللأشخاص الذين يعرفهم . سيقول أحدنا أنه ليس مجرد مراقب، فهو شريك في صنع الأحداث، في صنع الحياة، فهو يعمل ويقيم المشاريع، ويدخل في علاقات في العمل، وأخرى أكثر حميمية في حياته الشخصية والعائلية. هذا كله صحيح، ولكن صحيح أيضًا أن الإنسان حتى مع أولئك الذين يدخل معهم في علاقات ويصنع معهم الأحداث يكون مراقبًا لهم، وبصورة أشمل هو مراقب للحياة كيف تسير وكيف تتحول بناسها وأحداثها: الحلو منها والمر الجميل والقاسي.
كلما كانت خبرات الإنسان أكثر وتجاربه أوسع وأعرض كانت دائرة مراقبته أوسع وأغنى، فخبرة الإنسان تزداد بوجوده مع الآخرين، وبقدرته على معرفة الحياة وهتك أسرارها، فالحياة – كما يقول أحد كتاب الدراما – هي أعظم مؤلف، وهي كلما عاشها الإنسان بكل ذرة من ذراته علمته المزيد.
شهيرة مقولة جلجامش: «أنا من عاش ورأى». ومع أن البحث المأساوي لجلجامش عن الخلود، انتهى هو الآخر مأساويا، لكن المهم أنه عاش ما يكفيه ليرى، ويبدو صحيحا القول إن كثيرين من الناس مثل جلجامش كانت لهم أحلامهم الكبيرة التي مشوا في مناكب أرض الله الواسعة بحثا عنها، فحق لهم بعد ذلك القول: نحن من عشنا ورأينا.
في كتابه الجميل: «داغستان بلدي» يعبر الشاعر رسول حمزاتوف عن حنينه لوطر مضى، كان فيه الناس يقدرون المرء؛ لأنه عاش أطول وتسلق عددًا أكبر من الجبال. هذا العهد لم يعد موجودًا، لكن نماذج من هؤلاء الرجال الذين رأوا مدنًا وأنهارًا وبحارًا كثيرةً، وعاشروا أقوامًا وشعوبًا شتى، وذاقوا الدنيا من عسل وصاب كما يقال، تركوا لنا روائع الكتب وكنائز الحكمة والمعرفة.
وإذا كان كل الناس مراقبين، ولكل منهم ذاكرة وفؤاد، فإن قلة هم الذين يملكون موهبة خاصة وحساسية في التعرف على الأشياء، وفي التقاط التفاصيل المثيرة للاهتمام في الحياة وفي سلوك البشر.
هذه الموهبة هي نفسها تلك الحاسة التي نسميها «دقة الملاحظة». وحين تقترن عند إنسان حاسة الملاحظة الدقيقة بموهبة أخرى كالقدرة على كسر القشرة الخارجية للظاهرة موضوع الملاحظة والنفاذ إلى دواخلها فإن ما يصل إليه من استنتاجات وأحكام ستكون من ذاك النوع الذي يعيش ويتجدد ويدعو للتأمل والتفكر الدائم فيه. وذلك هو سر الأدب العظيم والفن الخالد الذي لا يبلى وشأن الأفكار العظيمة التي لا تتقادم ولا تشيخ، إنما تكشف – مع الزمن- عن مكامن عبقرية من وضعوها، وسر أولئك الرجال والنساء الذين يزيدهم العمر جلالاً وجمالاً وتألقًا، فيجعلون من كل مرحلة عمرية حياة جديدة ملؤها الفرح وقوة المغزى.
______
*جريدة عًمان

شاهد أيضاً

أبورياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع لإنارة الطريق

الأديب موسى أبو رياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *