سينما الكُتّاب والكتابة


*محمد العباس


لا تقتصر الأفلام المتعلقة بعالم الكُتّاب على عرض سيّرهم أو جانباً منها، بل تغوص عميقاً في كل ما يتقاطع مع الكتابة وهواجسها، كما تقدم لوحات متنوعة لمآزقهم الإنسانية، وأزماتهم العاطفية، إلى جانب أمجادهم في الفضاء الحياتي الاجتماعي، وصيرورة نصوصهم بمقتضى تلك المنعطفات، حيث تختزن الذاكرة السينمائية قائمة طويلة بأفلام تشكل مدرسة حقيقية في كتابة السيرة، وفي التجسيد الفني للشخصيات، وفي حقل الكتابة الإبداعية، لدرجة أنها صارت بمثابة الوثائق المرجعية لكل المهتمين بالفن والكتابة.

آخر ما يُعرض الآن على الشاشات فيلم «نهاية الرحلة»، وهو يحكي قصة الخمسة أيام التي قضاها محرر الرولنغ ستون ديفيد لبسكي لإجراء مقابلة صحافية مع الروائي الأمريكي المرموق ديفيد فوستر والاس، بعد نشر روايته الشهيرة «هزل لا حد له» عام 1996، من خلال عودة ارتدادية إلى عوالمه بعد إعلان انتحاره عام 2008، حيث يستعرض الفيلم أدق تفاصيل حياة والاس وفلسفته الحياتية من خلال قولات رنّانة ذات مغزى، تحيل إلى عزلته وهشاشته العاطفية، وانعكاس كل ذلك التيه الاجتماعي والانهاك النفسي على نصّه.
أما فيلم «كابوتي» فيستعرض السنوات الست الأهم في حياة ترومان ستريكفوس بيرسونز، المعروف بترومان كابوتي، صاحب الرواية الشهيرة «إفطار في تيفاني» التي تحولت إلى فيلم، حيث يقرر أن يكتب مقالة عن جريمة بشعة وقع على خبرها بالصدفة، باتفاق مع مدير تحرير «نيويوركر» الذي يغطي تكاليف الرحلة، ويعطيه تصريحاً مفتوحاً للتواصل مع كافة الأطراف، وفي طريقه إلى كانساس يصطحب معه صديقة طفولته الكاتبة هاربر لي، وكانت آنذاك في طور كتابة روايتها «أن تقتل عصفوراً محاكياً»، وقد كان ينوي تسجيل انطباعات الناس حول تلك الجريمة المأساوية، إلا أنه انتهى إلى كتابة أهم رواياته «بدم بارد»، التي سجلت أعلى المبيعات وتحولت إلى فيلم، حيث يتوغل عميقاً في أعماق القتلة، ويُنشئ علاقة صداقة معهم، الأمر الذي يرتد عليه ويعجّل بوفاته، وكأن الفيلم يريد الإخبار عن مصدرية نصّه الروائي.
وفي فيلم «بؤس» المقتبس من رواية متخيّلة للروائي ستيفن كنج، تدور الأحداث حول شخصية الكاتب بول شيلدون الذي يتعرض لحادث سيارة أثناء عاصفة ثلجية، فتنقذه ممرضة معجبة بكتاباته، وهو الأمر الذي طالما حاول تفاديه، أي الفرار من المعجبين، وفي ما كانت تعالجه نفسياً يكتشف أنها تعاني هي الأخرى من اضطرابات نفسية حادة، حيث تلجأ إلى إحراق روايته التي كان بصدد إصدارها، وترغمه على إعادة كتابتها وفق مرئياتها كقارئة ومعجبة، وذلك باحتجازه في منزلها بسادية المعجبين، حيث يتراوح تعذيبها له ما بين الأذى الجسدي والقهر النفسي، لدرجة إطعامه الفئران الميتة، وهكذا صار يكتب روايته والسكين على بعد سنتيمترات من عنقه، وهذا بعض ما يريد أن يقوله الفيلم، إذ يوحي بانقهار الكاتب لإرادة ومزاج واستيهامات معجبيه.
العزلة، الاكتئاب، الملل، الألم، متوالية حاضرة بقوة في معظم الأفلام ذات الصلة بالكتابة، خصوصاً عالم الروائيين والروائيات، حيث تحضر تلك العذابات، بمزيج من الواقعي والمتخيّل في فيلم «الساعات»، ويروي قصة حياة ثلاث نساء من أجيال مختلفة، تأثرن بأشكال مختلفة برواية «السيدة دالواي» لفرجينيا وولف روائياً، كلاريسا فوغان في نيويورك وهي تعد حفلة لصديقها القديم ريتشارد المصاب بالإيدز، وربّة المنزل الحامل لورا براوس، التي تعيش في كاليفورنيا وتعاني من حياة زوجية تعيسة، بالإضافة إلى فيرجينيا المقيمة في حالة مزمنة من الاكتئاب ومرض عقلي بينما تحاول كتابة روايتها، حيث تضغط الرواية عليهن جميعاً باتجاه الانتحار، ليستخلص الفيلم أثر الرواية على الكاتب والقارئ وانعدام المسافة ما بين المعاش والمتخيل، الواقعي والمتخيّل.
الكاتب المنسي بعيداً عن الأضواء والكرنفالات يشكل أيضاً مادة خصبة للأفلام، ففي فيلم «الانطلاق مساءً» يستشعر الكاتب ليونارد شيلر إحساسه المرّ بالنسيان من قبل القراء والنقاد، وهو يعبر نحو شيخوخته الجسدية والإبداعية، فيما يحاول أن يكتب رواية أخرى، لتفاجئه الطالبة الشابة هيثر وولف برغبتها في تحضير رسالة الماجستير حول أعماله، وبعد نوبات من الرفض والتمنُّع يستجيب لها، وهكذا قررا الالتقاء كل أسبوع، هي بحاسوبها المحمول وملابسها العصرية الخفيفة الملونة، وهو بآلته الكاتبة القديمة وبذلته الرسمية القديمة، هي بحيويتها وهو بخطواته المتثاقلة، حيث تقتحم عالمه الحياتي والروائي لتسائله عن الصلة الجوهرية بين رواياته وحياته العاطفية، وكلما أنكر واجهته بالدليل التحليلي لنصوصه، كما ازدحم الفيلم بسجالات في صميم العمل الروائي حول مصدر الفكرة وبناء الشخصيات ومنسوب الخيال مقارنة بالواقع.
وفيما يتعلق بمفهوم كتابة المذكرات الشخصية عبر وسيط محترف، أو ما يُعرف بالكتابة الشبحية يأتي فيلم «الكاتب الشبح»، وهو فيلم يروي سيرة شخصية رئيس وزراء سابق يدعى آدم لانج، يقرر بعد اعتزاله العمل السياسي السفر إلى الولايات المتحدة بصحبة زوجته للعيش برفاهية وكتابة مذكراته، بعد أن تلقى عرضاً من دار نشر بقيمة عشرة ملايين يورو كدفعة مسبقة، ومع إلحاح الناشر لإنهائها في أقرب وقت، يلجأ إلى كاتب مجهول الإسم والعنوان، كما جرت العادة في كتابة مذكرات الشخصيات المهمة، لئلا يكون مصدراً لتلصُّص الصحافة وتسريب المعلومات فائقة السرية، وخلال عمله ينقب في الإرشيف فيكتشف أموراً بالغة السرية، الأمر الذي يعرض حياته للخطر، حيث تشكل حبكة الفيلم إطلالة على عمق هذا النوع من الكتابة.
الحبسة الكتابية أيضاً لها نصيب في تلك المتوالية من الأفلام، ففي فيلم «أولاد مذهلون» يعاني البرفيسور جرادي تريب الذي يدرس الكتابة الإبداعية، ويقيم في بتسبيرج من حبسة كتابية، ومن انعدام قدرته في السيطرة على ما يريد كتابته، على إيقاع ترك زوجته الشابة إيميلي له، وتورطه في علاقة مع مستشارة الجامعة سارة غاسكل زوجة زميله، حيث تحمل منه، في الوقت الذي يصل فيه محرر روايته الثانية روبرت دوني ليحثه على إنجاز روايته المتعثرة منذ سبع سنين، ليصادف طالبته توبي ماغوير التي تبهره بكتابتها، وهذا هو جوهر الفيلم الذي يسأل عما يحدث للكاتب عندما تهرب منه الكتابة، وعندما تتداخل الارتباكات الاجتماعية الحياتية مع اضمحلال الإلهام وتردي القريحة، أي حين يتبعثر الكاتب خارج حالة التنسُّك التام للكتابة.
حتى الكوميديا أو المعالجات الغرائبية تم توظيفها في عوالم الكتابة المسرودة سينمائياً، ففي فيلم «تبنّي» يتصدى الكاتب تشارلي كوفمان لفكرة إعداد سيناريو سينمائي لكتاب «لص الأوركيد» للكاتبة سوزان أورلين بطلب من فاليري توماس، حيث تم شراء عقد الفيلم قبل أن تكتب سوزان الرواية، أي عندما كانت مجرد مقالة في «نيويورك تايمز»، وحينها تفرض الرواية سطوتها عليه وتؤثر في عالمه الواقعي، حيث يواجه صعوبة في التقاط الخط الدرامي للرواية، بسبب الحبسة الكتابية التي يعانيها، وكآبته الشخصية كانعكاس لأزمة منتصف العمر، وهكذا تتعقد أزمته ككاتب سيناريو ما بين أمانته للنص أو تحريفه درامياً بما يتناسب مع مرئياته، عندما يكتشف علاقة عاطفية ما بين سوزان وجون لاروش، مع عدم اقتناعه بإمكانية لاروش لملء الفيلم، وبذلك يتحول الفيلم إلى محاكاة واقعية لطبيعة الصراع مع النص المعاند لما قد يطرأ عليه من خارجه، ولذلك يلجأ إلى شقيقه التوأم دونالد الذي يحلم هو الآخر باحتراف كتابة السيناريو.
كل ما يتعلق بالكتابة يجد له محلاً وصدى داخل هذا النوع من الأفلام، سواء بشكل كلي أو جزئي، ومن منطلقات خيالية أو واقعية، فهي أفلام منذورة للتماس العميق مع ما وراء المعروض من حياة الكُتّاب، ومدروسة بحيث تشكل إطلالة منهجية لعوالم الكتابة، وبالتالي فهي تحتاج إلى كادر جريء وحرفي في مقاربة هذا الحقل، لأن النصوص والأدوار تكون على درجة من التعقيد والصعوبة، ولذلك ليس من المستغرب أن تحصد هذه الأفلام الجوائز، بما في ذلك الأوسكارات، كما حدث لكاثي بيتس عن دورها في «بؤس»، ونيكول كيدمان عن دورها في «الساعات»، وفيليب سيمور هوفمان في «كابوتي» وغيرهم.
أما قائمة الأفلام فهي طويلة وغنية بالموضوعات والمعالجات كفيلم «السيدة باركر» الذي يسلط الضوء على حياة دورثي باركر، وفيلم «اللاعب» المأخوذ عن الرواية الشهيرة لمايكل تولكن حول متعة وخطورة الكتابة للسينما، وفيلم «تفكيك هاري» الذي يمثل فلسفة وودي آلن في الكتابة، وفيلمه «الستارة» الذي يعالج فيه قضية قائمة مكارثي المعروفة، حيث يبيع كاتب مغضوب عليه نصوصه لعامل مطعم ليحصل على رزقه، وغيرها من الأفلام التي تعالج مختلف القضايا، في جميع أنحاء العالم، كالفيلم الألماني SATANSBRATEN والفيلم السويدي THROUGH A GLASS DARKLY إلى جانب منظومة من الأفلام الملهمة التي تنهل من الكتابة إلى عوالم الفيلم أو تجعل من الفيلم محلاً لهواجس الكاتب وسيرته ومعاناته لتوليد نصه الإبداعي.
_______
*القدس العربي

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *