احتكار الحقيقة… احتكار المنفعة


*عدنان الصباح


خاص ( ثقافات )
مطلق الوجود… مطلق العدم هو التفسير العملي الصحيح الذي يقدمه الشموليين للمفهوم الفكري لمطلق الحقيقة… مطلق الخطأ فالشمولي لا يعترف بوجود رأي مغاير أو مخالف على قاعدة البحث عن الحقيقة لسبب بسيط انه صاحبها وبالتالي فما دامت الحقيقة مختبئة في عقله المريض فان كل من يختلف معها أو لا يطابقها فهو مناقض للحقيقة ومن يناقض حقيقته فهو على خطأ وخطا مناقضة الحقيقة يصل حد الخطيئة والخطيئة يجب أن تعدم ذلك أن أولئك الذين يؤمنون بامتلاكهم الحقيقة المطلقة يؤمنون بالضرورة ان ما عداهم هو مطلق الخطأ وبالتالي فما دام مطلق الحياة من حق مطلق الحقيقة فان مطلق العدم من نصيب مطلق الخطأ وهذا ينسحب على اصحاب كل منهما فمن يعتقد بانه صاحب مطلق الحقيقة فهو بالتالي يؤمن بانه صاحب الحق الوحيد بالحياة ومن يقابله او لا يتفق معه يشبه موقفه الذي من حقه مطلق العدم… أي الموت بكل بساطة وادعياء مطلق الحقيقة يدركون جيدا هدفهم من احتكارها لسعيهم في الاساس لاحتكار المنفعة فلو تنازلت سلطة ما عن ادعاءها هذا لتنازلت بالضرورة عن احتكارها للمنفعة المبررة اصلا بكونها محتكرة للحقيقة.
قد لا يستطيع احد ان يمنع غيره من ادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة او الاعتقاد بذلك فهذا من جانب ما هو حرية للاعتقاد وتقدير الاعتقاد لكن الجريمة تكمن بمنع الآخرين من حق تعتقد انه ملكك وحدك فما دمت مقتنعا بان ما لديك هو الحقيقة فان من حق الآخرين أيضا الاعتقاد بذلك ومعاملتك بالمثل ولذا نرى المتقابلين على نفس النهج الأكثر دموية ورفض للآخر ومنعا له حتى من الاعتقاد كما يفعلون أو من التفكير بما يعتقدون على قاعدة أن على الجميع أن ينصاعوا لرأيي كما أراه أو لحقيقتي كما اعتقدها.
على هذه القاعدة لا يمكن لاحد ان ينسى موقف الكنيسة من العالم ( جيرانوا برونوا) الذي تحدث عن دوران الارض وقيام الكنيسة باعتقاله لمدة ستة اعوام ثم الحكم عليه بالإعدام حرقا عام 1600 بتهمة الهرطقة والزندقة وقد اجبرت الكنيسة جاليليو على اعلان عدم دقة آراءه واكتشافاته علنا امام الناس مستخدمة بذلك كل وسائل الترهيب ضده والقائمة تطول ولعل ما تعرض له فولتير من شتى صنوف الاضطهاد والقمع كان الشاهد الاكثر قربا وشهرة لجرائم الكنيسة ولم تقف جرائم الكنيسة عند حد العنف ضد الفكر والعلم واصحابهم بل ان الصراعات والحروب الدامية بين الطوائف المسيحية فاقت كل حد ولعل ما جرى في حرب الثلاثين عاما بين 1618 – 1648 م بين البروتستانت والكاثوليك هي الابرز وقد كلفت هذه الحرب ملايين من الضحايا حتى ان المانيا خسرت نصف سكانها. 
هذه المقدمة جاءت للتحدث عن اخر حدث في راس العام 2016 وهو اعدام السعودية لرجل دين شيعي بتهمة اثارة النعرات الطائفية والدعوة للإرهاب وردت إيران وسائر المرجعيات الشيعية بكل غضب وصولا الى الاعتداء على السفارة السعودية في حين ان ايران نفسها اقدمت على اعدام العديد من السنة واصحاب الراي فقد اعدمت في مطلع اذار 2015 ستة أكراد بتهمة محاربة الله والافساد في الارض كما اقدمت وفي 30/10/2015 على تنفيذ حكم بالإعدام ضد رجل دين سني كما أنه وفي رد ايراني واضح على قيام السعودية بإعدام الشيخ نمر قامت ايران بالبت بحكم الاعدام الصادر بحق رجل الدين الكردي السني شهرام احمدي.
عقلية اغتيال الآخر ليست حكرا على احد بل ان كل اولئك الذين يرفضون الاعتراف بوجود الآخر وينصبون انفسهم ناطقين باسم الله على الارض هم امتداد متواصل لأجدادهم الذين قتلوا وسجنوا ونفوا وسمموا علماء ومفكرين واصحاب راي من امثال الرازي والخوارزمي والكندي والغزالي وابن رشد وابن المقفع والقائمة تطول وتطول حتى لا يكاد ينجو منها رجل فكر واحد حاول ان يخالف بالراي حاكما أيا كانت صفته ولم تنتهي حتى اللحظة قضية الحكم السعودي بإعدام الشاعر الفلسطيني اشرف فياض وسبق لقطر أن حكمت بالسجن المؤبد على شاعر بسبب قصيدة معارضة لنظام الحكم ولا زال ماثلا للجميع الحكم الصادر بحق الاعلامي والمفكر المصري اسلام بحيري بطلب من الازهر.
الاعدام قتلا او سجنا او نفيا او اضطهادا او اعدام الفكرة بإجبار صاحبها على التنازل عنها علنا وقسرا هنا يأتي من باب القناعة التامة القائمة على المصلحة لأصحاب الحكم باستمرار السيطرة ومواصلة التجهيل واجبار المحكومين على قبول حكمهم وعدم قول الحقيقة او الدعوة للتغيير مصرين لصالح حكمهم على انهم اصحاب الحقيقة الوحيدين المسموح لهم ولحقيقتهم بالحياة وعلى الاخرين اصحاب الخطأ الخطيئة أن يموتوا هم وخطيئتهم.
بكل الاحوال فان الاعدام بقرار هو اخطر الف مرة من جريمة القاتل الفرد الذي قد يقوم بجريمة ما في لحظة ما دون دراية او تخطيط او تفكير تام في حين ان عمليات الاعدام تقوم بأسس وقواعد وأحكام ونصوص وبمشاركة هيئات ومؤسسات مختلفة وبعد تحضير وتفكير لتصل بالنهاية الى جريمة واحدة وهي القتل.
قد ترتكب خطأ ما هنا أو هناك أكان هذا الخطأ بالفعل أو بالفول أو بالفكر وقد تجد من يعاقبك على خطأك وقد يكون مصدر هذا العقاب حكومة أو حزب أو عشيرة ولكل من هؤلاء طرقه للعقاب على الفعل الذي ارتكبه المتهم بالجرم وفي حالات كثيرة تصل العقوبة حد القتل وإنهاء حياة الإنسان الذي ارتكب الجرم.
لا يوجد مجرم بالطبع أو بالسليقة ولم يولد أيا كان على وجه الأرض مجرما أو قاتلا فالحياة والظروف هي التي تدفع بالإنسان إلى الفعل بدءا من ثقافة البيت والمدرسة والشارع والمجتمع وانتهاء بالحالة الفردية التي يصل إليها مرتكب الجرم أثناء ارتكابه له ففي الغالبية المطبقة من الجرائم يكون الشخص تحت ضغوط شديدة هي التي تتحكم بأفعاله وأحيانا يفقد السيطرة على نفسه وتتحكم بذلك عوامل عديدة كالوعي والإدراك والوضع المادي فأنت لا يمكنك أن تحاسب المرء على جريمة سرقة الخبز وهو تحت تأثير الجوع ولو أدى السعي للحصول على القوت إلى القتل فسيبقى للحالة خصوصيتها التي تختلف عن شخص قام بالسرقة لدوافع أخرى أو للقتل في سبيل السرقة.
المهم إن الجريمة الفردية ترتكب تحت ضغوط آنية وسريعة وانفعالية تضع الإنسان خلال لحظات في قائمة المجرمين ويتم تقديمهم للمحاكمة وطوال شهور أو سنين تواصل المؤسسة الرسمية القادرة على المحاسبة أيا كانت نشاطها في محاكمة الشخص عن لحظة ويشارك بهذه الإجراءات مختصون بالقانون والدستور والطب وآخرون ليقرروا بكل راحة وبدون أية ضغوط قتل المتهم وبالتالي فان ما قام به المجرم نفسه بحالة ضعف ومنعزلا وتحت ضغوط مختلفة تقوم به مؤسسة رسمية بدون أية ضغوط وبعيدا عن أي انفعال وتحت سلطة القوة او قوة السلطة بتجريد هذا الشخص من حياته علنا.
الحكومة السعودية اقدمت على اعدام رجل دين شيعي بتهمة التحريض على الارهاب بفكره ومن خلال خطبه الدينية فقامت قائمة ايران واندفعت الجموع هناك لتحرق السفارة والقنصلية واصطف العالم الاسلامي والعربي الى شيعي رافض للإجراءات السعودية ومنددا بها معتبرا إياها جرائم وارهاب دولة وسني مؤيد معتبرا الاحكام قصاص اسلامي شرعي وصحيح
في تاريخ الصراع السني الشيعي كان اختفاء الشيخ موسى الصدر والذي اتهم به نظام العقيد القذافي ولا زالت المراجع الشيعية تتابع هذا الامر حتى اليوم بما في ذلك اختطاف ابن القذافي من سوريا في نهاية العام 2015
جماعة داعش تقتل وتفجر مساجد للشيعة بأماكن متفرقة في العراق وسوريا والكويت وكذا كان الحال في افغانستان والصراع الطويل بين العراق وايران على اساس قومي عرقي طائفي.
وفي المقابل مارس الشيعة نفس الجريمة وعلى نفس القاعدة وبأشكال مختلفة لكنها تقوم على نفس القاعدة رفض الآخر ومنعه من اعلان رايه تحت طائلة التكفير والتهم الجاهزة من امثال الهرطقة والزندقة وما شابه ولعل ذلك يذكر بالتأكيد بنفس التهم التي ساقتها الكنيسة ضد منتقديها في العصور الوسطى وتعج معتقلات الانظمة العربية جميعها بسجناء الراي الذين تمتد آرائهم من اقصى اليمين الى اقصى اليسار فلا احد يقبل الاخر فاليميني خائن بعرف اليساري واليساري كافر بعرف اليميني والسني يكفر الشيعي والعكس صحيح والمسلم يكفر المسيحي والمسيحي لا يعترف به وكذا الحال بينهم وبين الاديان الاخرى أيا كانت وهذا ينسحب ايضا على الطوائف المسيحية واليهودية وغيرها من الديانات كما ينسحب على التيارات والقوى والفصائل الدنيوية الفكر من يسارية وليبرالية لكن الاخطر هو التكفير بين الجماعات والطوائف الدينية لأنها ترتكز في موقفها الى تفسيرها الخاص للدين واحد من كل هؤلاء لم يسال نفسه من هو الذي يقرر ان الطائفة كذا هي الطائفة الصحيحة ولا يحق لاحد ان يناقش رأيها وان ما عداها من طوائف وشيع وديانات وأفكار هي خاطئة ولا يجوز الاعتقاد بها ومن يفعل فهو إما كافر وإما خائن لا يحق لفكره ولا لشخصه الحياة.
ان ظلامية الفكر الشمولي تعتبر المؤسس للإرهاب أيا كان مصدره فأولئك الذين يقبلون الحلول مكان الآخر بالفكر وصياغة السلوك المصاحب وتنفيذه يشبهون الى حد التطابق نظام الحكم الفردي المطلق الذي يلغي كل وجود لكل مكونات السلطة ويحتكر حقيقة المعرفة وحقيقة فعلها ويصوغ لذلك مبررات اساسها الوحيد القوة والغاء الآخر… مطلق الآخر جسدا ان استحال الغاءه فكرا وسلوك وبالتالي فان الشمولية فلسفة خاصة اساسها المصلحة او المنفعة المتأتية من اخضاع الجميع لنفس الرؤيا على قاعدة استخدامهم لتحقيق المنفعة المباشرة للقائمين على الحقيقة حسب ادعائهم وفلسفة القوة هذه تلغي العقل والمنطق معا وتمنع صاحبها حتى من محاولة تطوير ذاته او رؤيته مما يقوده بالنهاية للاصطدام بالمطلق ويقبل الانزواء بعيدا عن الآخرين اما لعدم معرفتهم او لعدم رغبته بمعرفتهم او لقناعته ان القبول بهم هو تنازل عن جزء من المنفعة المحتكرة كالحقيقة المحتكرة وهذا يعيدنا للقول ان الاعتقاد باحتكار الحقيقة قائم بالأساس على الهدف الاساس وهو احتكار المنفعة.

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *