الرواية وثورات الحداثة..الرواية والثورة الفيزيائية(3)




لطفية الدليمي


ساهمت الثورة في ميدان الفيزياء النيوتنيّة التقليديّة والتي أطلقت شررها النظريّة النسبيّة Relativity Theory في إعادة تشكيل صورتنا المفاهيميّة ، وبشكل خاصّ ، عن طبيعة الزمان و المكان وأبانت العلاقة المتلازمة بينهما . أمّا النظريّة الثانية التي ساهمت في الثورة الفيزيائيّة فكانت ( النظريّة الكمّية ) Quantum Theory التي نسفت مفاهيمنا السائدة بخصوص التزامن Simultaneity ، والسببيّة Causality ، وطبيعة المادة والضوء ، وعملت بشكلٍ أساسيّ في تهشيم مواضعاتنا الراسخة حول الحتميّة الفيزيائيّة وأحلّت محلّها القوانين الإحصائيّة والاحتماليّة . عملت هاتان الثورتان الفيزيائيتان على تغيير نظرتنا إلى الواقع وتغيير طريقتنا في التعامل معه وكيفيّة تناوله ، الأمر الذي ترتّب عليه حتماً تغيير طبيعة الاشتغالات الروائيّة لأنّ الطبيعة المفاهيميّة للواقع تعدُّ نقطة الشروع الفلسفيّة التي تخدم كأرضيّة ( أو خلفيّة ) يقيم عليها الروائيّون هياكلهم الروائيّة في كلّ العصور منذ بدء الفنّ الروائيّ ( الذي نشأ مع رواية سرفانتس : دون كيخوته كما يعتقد الكثيرون ، في حين يرى آخرون أنّ الرواية – كفنّ راسخ – بدأت مع نشر ( صامويل ريتشاردسون ) لروايته ( باميلا ) في القرن السابع عشر) وحتى أيّامنا هذه . إنّ المفهوم السائد عن الواقع في أيّ عصر هو بالتأكيد العنصر الأساس الذي يحدّد طبيعة الرواية وكيفيّة اشتغالها باعتبارها فنّاً يتأسّسُ على رؤية فلسفيّة حول المظهر ، والواقع ، والأفراد وطبيعة علاقاتهم ، وكيفيّة التعامل مع الزمان والمكان ، والصور الذهنيّة التي يكوّنها الأفراد عن العالم المحيط بهم ، وتلك موضوعاتٌ تجعلنا نواصل طرح تساؤلاتنا حول المعضلات الفلسفيّة الممتدّة منذ نشأة الفلسفة الإغريقيّة وحتى يومنا هذا . ربّما يكون من الملفت للانتباه أن أذكر في هذا المقام أنّ بعضاً من أفضل الروائيّين كانوا فيزيائيين متمرّسين ذوي باعٍ و خبرة في حقلهم الفيزيائيّ ، وأذكر من هؤلاء : اللورد سي. بي. سنو المعروف بكتابه الأشهر ( الحضارتان العلميّة والأدبيّة : نظرة ثانية ورواياته : الضوء والظلام وزمان الأمل والأساطين وَالروائي الأرجنتيني أرنستو ساباتو صاحب الروايات الشهيرة : النفق وأبطال وقبور وإيبدو ملاك الجحيم . ومن الفيزيائيين – الروائيين المحدثين أذكر آلان لايتمان ، أستاذ الفيزياء في (معهد ماساشوستس التقني MIT ) ومؤلّف رواية ( أحلام آينشتاين ) الذائعة الصيت ، وكذلك ( ريبيكا نيوبرغر غولدشتاين ) التي بدأت فيزيائيّة وانتهت فيلسوفة وأستاذة جامعيّة وأذكر من رواياتها ( خواص الضوء : رواية عن الحبّ ، والخيانة ، والفيزياء الكميّة ) و رواية ( شقيقة الظلام ) وغيرها.
ليس التأثير الفيزيائي ( أي الطبيعي ) في الحقل الأدبي أمراً مستجداً أو خاصاً بالأزمنة الحديثة ، بل يمكن تتبّع أصل هذا التأثير في نص شعري قديم بعنوان ( طبيعةالأشياء ) عنوانه باللاتينية هو ( De Rerum Natura ) – كتبه الشاعر والفيلسوف الروماني ( لوكريشيوس ) في القرن الأول قبل الميلاد بهدف شرح الفيزياء الأبيقورية من خلال لغة غنية بالاستعارات يقدّم فيها لوكريشيوس مبادئ المذهب الذري Atomism ، وطبيعة العقل والنفس ، واستكشاف الحواس والفكر مسترشداً بفكرة الفرصة الفيزيائية المُتاحة بعيداً عن تدخل الآلهة الرومانية التقليدية.
________
*المدى

شاهد أيضاً

أبورياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع لإنارة الطريق

الأديب موسى أبو رياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *