جاوزنا الحبو على سجادات أمهاتنا


ختام السيد*



قد لا يكون من قَبيل الصدفة، أن يحمل ملتقى الفجيرة الإعلامي؛والذي كنتُ ضيفةً عليه في دورته السادسة- والذي انعقد في 7-8 من أكتوبر/ تشرين أول للعام الحالي 2015م-عنوان:”الإعلام العربي والتنوير – الدور المنتظر” وبحضور لافت لأكثر من أديب وباحث من مختلف أقطار الوطن العربي، في مقدمتهم أدونيس الذي أسهب في الحديث عن مقتضيات “التنوير بين التنظير والواقع” إضافة إلى جلسات نقاشية تركزت عناوينها حول التنويرفي الإعلام المرئي، ودور الصحافة العربية ووسائل التواصل الرقمية في التنوير، والمستقبل التنويري الذي يمكن استشرافه في الإعلام العربي في ظل المتغيرات. 

من المنطقي جداً أن يُفتح باب الحوار على مصراعيه لمناقشة نتائج خطاب إعلامي ” خشبي ” استمر في رطانته منذ عقود، إعلام لم يقدم الجديد للمتلقي العربي؛على كافة المستويات العلمية، والثقافية، والدينية، والفنية. أي، أنهُ لم يطور في الذائقة الجمعية، ولم يحث الرأي العام على تنوير نفسه بحسب ما يوضح الفيلسوف الألماني ( كانط ) “بأن الحرية وقبل كل شيء يجب أن تفتح باب التنوير”، أو الإستنارة؛ كما أصطلح على تسميتها في أدبياتنا العربية في مطلع القرن التاسع عشر، في الفترة التي أخذت تتبلور فيها فكرة النهضة والحداثة العربية على يد المجددين من أعلام الفكر والذين أطلعوا بدورهم على أهم رموز التنوير في أوروبا في ذلك الوقت. 
هنا، يكمن المأزق، وهنا، مربط الإشكاليات الكبرى التي نعيش حصادها اليوم، والتي أفاق عليها؛ من كانوا يمسكون برسن الإعلام الموجه، مؤكدين على أنّ المشكلة تقع على عاتق ما كان يقدم من أفكار تصب في خانة التشدد والتضخم العروبي المزيف، الذي سقط في أختبارات القوة والوحدة والتآخي منذ الثورة العربية الكبرى وإلى الآن. 
هذا الإعلام الذي أنبرى لمناقشة أبعاده وسلبياته العديد من رموز الثقافة في الملتقى، خرج بتوصية شديدة الأهمية – جوهر مضمونها- أن يقف الإعلام إلى جانب القيم الإنسانية المنتصرة للفرد والمجتمع. القيم التي تُذيب الهويات الفرعية لصالح هوية واحدة تنبذ العنف والطائفية والمذهبية والفئوية والجهوية. 
كيف يمكن الوصول إلى صياغات أو مقاربات من خلال وسائل الإعلام المختلفة لتطبيق هذه التوصيات؟.. الجواب سهل، بالكثير – من الحرية – التي تتيح للفرد في مجتمعه أن يشكل قناعاته، ويعبر عنها بالكثير من الحرية فعلاً، وقولاً، وكتابةً، بما يمكنه من أستخدام العقل استخداماً صريحاً، فالتنوير مكانه العقل، ولا أقصد هُنا؛ العقل المحشو بالكثير من المعارف، بل العقل الواعي الفاعل، العقل المفكر المعتمد على نفسه في تشكيل أرائه، والقادر على بناء تجربته الفردية بما ينسجم مع أراء أو يتعارض مع أراء غيره، العقل المبدع في تصوراته، المالك لديناميكيات التفكير الإيجابي دون الرضوخ لسلطة غير سلطة المنطق. 
إننا لا نحتاج إلى إعادة إستنساخ مفهوم التنوير بمقتضياته الأوروبية المحكومة بظرفها الزماني والمكاني، بقدر حاجتنا إلى قراءة تشخيصية لماهية ” التنوير ” الذي نحتاجه كضرورة حياتية يومية بسيطة.
استقراء عميق لماهية المشهد الحالي، ستصيبنا بالصدمة المروعة، بعد أن يُزاح جبل الجليد عن عقود من الفكر المنغلق والإعلام المدعي، الذي اجتهد في عملية تزيف العقل الجمعي، خدمة لراس مال الرفاه، والتحرر القشري. 
التنوير من اين يبدأ، وإلى أين ينتهي ؟ يبدأ من عقلك وعقلي عندما نتحاور ونتناظر بالمنطق وبالرأي، وبمقابلة الحجة بالحجة، عندما ترفض الإستبداد بمقتضياته الكاذبة، ولا نقبل بتبرير إنسحابي أمام مقولة:” المستبد العادل أفضل من غير العادل “، عندما لا تفرقنا السياسة شيعاً وقبائل، وتتقاذفنا التيارات والإتجاهات والعصبيات والولاءات للداخل والخارج، عندما نؤمن بأننا نعيش في هذا الكون شركاء، وبأن ثقب طبقة الأوزون الذي يتوسع فوق سماء ” أريزونا ” يعنيننا تماماً، وبأن قضية التصحر في موريتانيا، وصيد الدلافين في أستونيا، وأنقراض النّعام في مالديفيا، تشكل لنا، خبراً، أهم من متابعة أخبار ” كيم كاردشيان ” بمؤخرتها الذهبية، أو خبر ترشح زوجها للرئاسة، وبلوغ رغبات زوج والدتها المتحول، إلى سدرة المنتهى ، وفيراري مرصعة بالألماس هدية أختها في عيد ميلادها. 
اسئلة التنوير لا تنتهي، وقد تعلمنا أنّ صياغة السؤال، أصعب ألف مرة من البحث عن إجابة، وأن مهمة الصحفي، والإعلامي، والكاتب، والمثقف، والمفكر، وعالم الدين، والسياسي طرح الأسئلة التي تتجاوز الخطاب المسموح به والمقروء والموجه.
في باب السؤال، تعالوا لنتساءل: كم مرة ذهبنا إلى السينما هذا العام؟ ما نوع المسرح الذي ذهبنا إليه بصحبة عائلاتنا وأصدقائنا للإستمتاع والفرجة؟ كم كتاباً قرأنا – والأهم ماذا قرأنا – وهل شاركنا غيرنا متعة الإفادة..؟ كم فيلماً وثائقياً شاهدنا؟ وهل قمنا بعمل تطوعي واحد – على الأقل – خلال هذا العام؟ 
كم دورة تدريبة خضعنا لبرامجها؟ كم مرة نزلنا إلى الشارع لنتحدث مع بعضنا البعض عن الحياة وعن مطالبنا بدون خوف من متابعة الرقيب؟ ساعاتنا التي نقضيها متنقلين بين وسائل التواصل الإجتماعي، هل شاركنا بمحتواها غيرنا، هل سعينا إلى نشر حكمة أعجبتنا، أو مقطع موسيقي راق لنا؟ هل حدث وأن حملنا القمامة من أمام بيت جارنا “المسن” طوعاً، وعلّمنا أبناءنا، أن لا يرموا القمامة من نافذة السيارة، وأن عليهم احترام عامل النظافة، وتقدير شرطي المرور الذي يصطلي بلهيب الشمس خدمة لسلامتنا؟
هل؛ كنتَ – أنتَ/ أنتِ– راضيان، عن وقوف ابنتكما في ميدانٍ عام، تُطالب بحقوق الأخرين؟ هل شاركتما ابناءكم في إختياراتهم الدراسية دون أن تفرضا عليهم ما تريدان أن يكونوا عليه، لا ما يودون هم، أن يكونوا في المستقبل؟ هل اعتذرت عزيزي الرجل من زوجتك عن صفعها في نوبة غضب عابر؟هل قدمت لها وردة وقبلتها أمام ابنائك؟
هل تجاوزت الأسئلة للتفكير فيما يعنيه لكَّ أن تكون شخصاً متنوراً، أن تصبح أخلاقياً في تصرفاتك مع غيرك، أن تبتعد عن التعسف في التعامل مع قضايا المرأة وحقوقها ومكتسابتها؟ أن تقف منتصراً للغتك ولأسمك وهويتك، وأن تبادر إلى الدفاع عن قضايا الطفولة والتعليم والمسنين؟!
كل هذه الأسئلة البسيطة لو أجبنا عليها بتجرد، سنكون قمنا بفعلٍ تنويري ذاتي، أي بمعنى، اذا كانت إجاباتنا صادمة، فإننا سنتوقف أمام أنفسنا لنعالج القصور فيها. بينما إذا صَبت الإجابات في خانة الرّضا والقبول الذاتي، فإننا سنسعى إلى الإحتفاء بذواتنا المتحضرة، وسنكافئها بالمزيد من الثبات على وجهة نظرنا، وسنوسع من دائرة التنويرين المجتمعية من حولنا، بل ربما تتطور افكارنا لنشكل معاً جماعةً ضغط قوية، تقاطع الإعلام العربي الموجه، وتلقنه درساً قاسياً، بعد، أن ارتضى بدوره التعبوي، التربوي، التلقيني.. ووإصراره على دونية النظرة لنا، وكأننا أطفالاً، لا زلنا نحبو على سجادات أُمهاتنا. 

* كاتبة من الأردن تعيش في سلطنة عمان

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *