رحلة موازية


*الحسين ولد محمد عمر


خاص ( ثقافات )
كانت ليلة جميلة تُحيلها نسمات الجو الخريفي إلى جنة دنيوية كما كان يقول صديقي دائما رغم اعتراض شلة الأصدقاء على هذا الوصف الذي يعتبرونه نوعا من الإلحاد، في نظرة سطحية تنم عن قلة تعليم بادية، فالجنة بالنسبة لهم واحدة وهي تلك التي ينالها المتقين بمجرد أن يختفوا من عالمنا المحسوس إلى العالمي الخفي.
حبات الرمل تتطاير في حركة آلية وبلورات حصوية تتجمع لتتناثر من جديد في مشهد رائع يتشكل مع طلوع فجر يوم سبت خريفي جميل.
أربع أضلاع، ثلاثة بشرية وآخر حديدي صامت يصدر أزيزا ممزوجا بهدير قوي بفعل احتكاك الرياح بالجسم الخارجي للباص وبسرعته التي تقارب 110 كيلومترات في الساعة، أما الاضلاع الثلاثة الباقية فسأصفهم لك بتفصيل ممل جداً.
قبل أن أسترسل دعني أقول لك إنني كنت منغمسا وبعنف بين دفتي رواية غابرييل جارسيا ماركيز ” ذاكرة غانياتي الحزينات ” التي تحكي مغامرات بطلها الغرامية الكثيرة والتي كنت ساعتها لا أزال أقرأ الفصل الأول منها ، لكن نظرات الضلع الشمالي الفضولية ومحاولة حشر أنفه بين دفتي الرواية حملتني إلى أن قلت له “لدي واي فاي، أتريد أن تستعمله ؟ ” أجاب أن نعم ! شَغلته بهاتفه و ” الوايف فاي ” خاصتي، ثم عدت لأحضان روايتي التي أريد أن أخلو بها لنفسي لأستمتع بالتقلب بين أحضانها الدافئة. لكن مهلا، لم تعرفوا الشاب بعد ، و أنا لا أمانع ذلك فهو الضلع الشمالي من مربع احتضنني طيلة رحلة طويلة تخللتها أحداث غريبة.
كان شابا دون العشرين من عمره أنفه أطول قليلا من اللازم و بوجنتين غائرتين قليلا ، عينان تميلان إلى الاصفرار، وبلكنة من ذلك النوع الذي يفتقد صاحبة متعة نطق الراء بشكل سليم مع مخارج أحرف بحاجة لتصويب بسيط، لكنه مع هذا كله كثير الكلام والذي يخرج دائما من بين أسنانه المتباعدة في صيغة أسئلة!!
أما الضلع الأخر فهو عند ظهري مباشرة، زنجي سواده حالك نوعا ما ، تبدو أسنانه واضحة أثناء الكلام، ومنشغل دائما في هاتفه الذكي، لكن المثير حقا هو فرنسيته الإفريقية بامتياز والتي ينفر منها الراء بشكل ملحوظ بحيث تظن أن كل ما ينطقه هو ” راءات ” جافة مثيرة للشفقة، لكن الأكثر إثارة من ذلك هو رائحة عطره المميزة التي قد تحسبها خلطة إفريقية لنباتات استوائية مجهولة وغريبة ، أَراد فجأة دون سابق إنذار نثرها في مساحة ضيقة هي مساحة الباص المستطيلة بحيث أحالت الركاب الخمسة عشر إلى جوقة موسيقية تحيي حفلة بعطاس متواصل لم تنقطع إلا بعد تشغيل المكيف الذي كان السائق قد أوقفه حفاظا على البنزين.
كانت أمامي مباشرة سيدة ثلاثينية تقريبا تخيلتها إحدى بطلات رواية غابرييل غارسيا ماركيز ” ذاكرة غانياتي الحزينات ” ، لا تزال شابة تحتفظ بكل مفاتنها في حالة تأهب واستعداد برغم أولادها الثلاثة الذين يتصارعون بينهم كما يفعل أولاد الهرّة في فترة نشاط صباحي بعد ليلة مليئة بالمواء بفعل الجوع أو أي عامل مغيظ آخر، و كانت هي تستجيب بطريقة آلية إما بالضرب أو التهديد أو بنظرة حادة يفهمها الأولاد جميعا، إلا ذلك الرضيع الذي تلقمه المرضع الجاهز ” بيبروه ” كلما أصدر صوتا دون أن تعرف حتى إن كان متألما أم عطشا أم لسبب آخر….! 
بدا لي أنها كانت تفعل ذلك كله للإاتمتاع بتجاذب أطراف الحديث مع الركاب ، خاصة ذلك الرجل القابع في الخلف تماما والذي يصدر صوتا يميل قليلا إلى الأصوات النسائية الناعمة والذي أجزم الآن أنه كان ليكون مخنثا لولا القدرة الإلهية التي جعلته رجلا بصوت نسائي وعبارات ذات دلالة واضحة على تحول وقف في نصف الطريق.
كانت السيدة الثلاثينية ذات بشرة نضرة و ملمس يدين ناعم وبغمازتين جميلتين في خديها المتوردين و أنف صغير بفتحتين تخالهما غير متساويتين، و شعر قد حظي باهتمام بالغ وحكم علي أنا الجالس عند ظهرها مباشرة أن أحظى بلمسات ناعمة على اليدين تبدو مقصودة إلى حد بعيد ، وأن أحاط بأنفاس لاهثة لفتاة في تجربتها الغرامية الأولى، لا أريد الإدعاء أنني تفاديتها ، لقد كانت وضعيتي مزرية إلى حد بعيد ، كنت جالسا على مقعد صغير ترك أثرا سيئا في الجزء الذي حَظيَّ به مني، ولم يكن باستطاعتي أن التفت لأن ركبتيْ كانتا مضغوطتين بشكل يجعلني كالسجين في وضعية أخف قليلا من وضعية القرفصاء لكن بلا حركة تقريبا.
بادرتني فجأة بالتفاتة عنيفة مغلفة بضحكة دلال وغنج حتى أنني أجزم أنه لم يبق بين وجهينا إلا سنتيمترات قليلة جدا ، وقالت ، هل أنت نائم ؟ لم تنتظر جوابا قطُّ! بل أردفت وفي حديث مسترسل لم تكن تُرِد له أن ينتهي، أنا لا أنام في السفر و أحب أن أتبادل أطراف الحديث حتى أصل ثم تعمدت بخبث أن تمرر أناملها الدافئة فوق يدي الممسكة بالمقبض الحديدي المثبت على قفا مقعدها كما هو حال كل المقاعد، ثم قالت إنكم تفسدون علينا هذا السفر بسكوتكم المطبق قبل أن يقاطعها صاحب صوت رقيق قادم من آخر الباص يشبه صوتها تماما، عرفت في ما بعد أنه يسمى ” سيدي ” توقف عداد تحوله الجنسي بحيث لم يعد رجلا ولم يصل لأسمى درجة التحول بأن يصير أنثى.

شاهد أيضاً

طه درويش: أَتكونُ الكِتابَة فِردَوْسَاً مِنَ الأَوْهامْ؟!

(ثقافات) طه درويش: أَتكونُ الكِتابَة فِردَوْسَاً مِنَ الأَوْهامْ؟! إلى يحيى القيسي لَمْ نَلْتَقِ في “لندن”.. …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *