بؤس تدريس الفلسفة عربيّاً


*أحمد مغربي



كأنّ هذا الكتاب برقٌ يلقي ومضات على أسئلة قاتمة عن عتمة يتخبط فيها العرب في حاضر انحدارهم، بل ربما انتحارهم، المأسوي. لماذا تستقطب «داعش» و»القاعدة» عقول الجموع، كإعصار يندفع في فراغ؟ لم لا تولّد جموع العرب إلا ما يشبه «داعش» في مرآة الطوائف والمذاهب والملل، فلا ينهض بديل حضاري لها حقاً؟ أين هو الفكر الإنساني (وليست الفلسفة سوى استعارته) الذي يفترض أن نهضة العرب منذ ما يزيد على قرن، أرسته في العقول والثقافة والاجتماع؟
الأرجح أن مداخل كثيرة لبعض الأجوبة على هذه الأسئلة وما يشبهها، يمكن العثور عليها في ثنايا كتاب «حال تدريس الفلسفة في العالم العربي» (712 صفحة قطع وسط- منشورات «بيبلوس»- 2015). وترأّس الباحث عفيف عثمان، وهو أستاذ فلسفة في الجامعة اللبنانيّة، فريقاً بحثيّاً متنوّعاً عمل على إنجازه. وظهر الكتاب أخيراً تكثيفاً لمشروع مشترك بين «منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة» («يونيسكو») و»المركز الدولي لعلوم الإنسان- بيبلوس (لبنان)» الذي ترعاه الـ»يونيسكو» أيضاً.

ضرورة تدريس الفلسفة
يحكي الكتاب قصة غياب الفلسفة عن النسيج الثقافي للدولة العربيّة المعاصرة، عبر التدقيق في أحوال تدريسها في النظام التعليمي (خصوصاً المدارس والثانويّات) وهو القلب في الدول المعاصرة، سواء أكانت متقدّمة أو متخلّفة. ويبذل الكتاب جهداً واضحاً في سبيل الإحاطة بتلك القصة كاملة، وهي متشعّبة ومتداخلة في آن معاً.
بداية، يدحض الكتاب التبسيط المخادع عن حق الفرد المعاصر في الفلـسفة. ويســتعيد مداخلة للمفكر الفرنسي جاك دريدا تسأل كيف يكون الحق في الفلسفة فعليّاً للأفراد، إذا لم تعطهم المدارس ما يمكّنهم من ذلك، كحال العلوم كلها. من دون تدريس الفلسفة، يكون تفكير الفرد في الفلسفة مجموعة من الأفكار والتأملات المتشظيّة التي لا تصلح فعلاً لشيء. ويكشف دريدا أن جعل الفلسفة حقاً فرديّاً في شرعة حقوق الإنسان، يكون رياءً ومخادعة، إلا إذا استُكمِل بتدريس الفلسفة في النظام التعليمي للدولة.
ولأن الدين امتلك دوماً مؤسساته القويّة وثقافته المنتشرة (كالكنائس والإكليروس في الغرب)، حدث صراع مستمر بين بنى الدين والميتافيزيقا من جهة، والفكر الإنساني الذي لا مؤسّسة لها فعليّة سوى النظام التعليمي في الدولة المعاصرة. ويتضّح ذلك بجلاء في المشروع العقلاني الغربي الذي شكّلت الثورة الفرنسيّة نقطة مكثّفة فيه، خصوصاً لجهة الصراع ضد سيطرة الديني على شؤون الدول والناس.
وفي سياق تلك الثورة، عمل نابليون بونابرت على دمج تدريس الفلسفة في النظام التعليمي، عبر قانون وضعه في 1802 جعل الفلسفة مادة أساسيّة في التعليم الثانوي. وبذا، صار تدريس الفلسفة جزءاً من نظام الدولة- الأمة غرباً. ويتتبع كتاب «حال تدريس…»، المسار الذي سلكه تدريس الفلسفة في الدول العربيّة، التي عمل الغرب على نشر نظام الدولة- الأمة فيها، مع ما يرافقه من نظام تعليمي غربي يتضمّن تدريس الفلسفة في الثانويات والجامعات. ثم تتعقّد الأمور عند تلك النقطة. إذ لم يكن العالم العربي خلاءً في العلاقة مع الفلسفة، بل كانت له «قصّته» الخاصة معها، التي تشابكت مع دخول الفلسفة عبر النظام التعليمي المحمول على صهوة الغرب ونموذجه المتألّق حضاريّاً من جهة، لكن كان استعماراً وهيمنة أيضاً.

فقه الأفراد المفقود
في «قصة العرب» مع الفلسفة، هناك تشابه مع ما حدث في الغرب. فالفكر الديني المتشدّد قاوم الفلسفة ومنطقها، باستمرار وضراوة، على رغم محاولات توفيق متنوّعة. وتخندقت مراجع دينيّة (إبن تيمية نموذجاً) خلف التفسير الفقهي، عبر شعارات كـ»من تمنطق كفر» و»الإسلام لا يحتاج إلى فلاسفة» (الجملة الأخيرة اعتاد ابن تيمية أن يرد بها على القول أن الكندي هو أول الفلاسفة العرب) وغيرها! وفي أوقات معاصرة، دأب راشد الغنوشي، وهو رئيس «حركة النهضة» الإسلاميّة التونسيّة، على المناداة بوقف تدريس الفلسفة في الثانويّات. والمفارقة أن الفلاسفة الذين حضّ الغنوشي على وقف تدريسهم هم الكندي والفارابي وإبن سينا وإبن رشد والقاضي عبد الجبار، أي أنهم مسلمون! لقد رفض الفلسفة كفكر إنساني، بغض النظر عن أي دعاوى أخرى. ويبرهن على ذلك دعوة الغنوشي إلى استبدال أولئك الفلاسفة بنصوص لحسن البنا وأبو الأعلى المودودي وسيد قطب الذين يقفون في أساس ظاهرة الإسلام السياسي، بل التيارات الأشد تطرّفاً في ذلك التيار، خصوصاً قطب والمودودي.
ولم يتردّد كتاب «حال تدريس…» في إبراز نماذج مكثّفة عن ذلك الصراع، كالجدال العابر للزمن بين الإمام الغزالي الذي رفض أن تكون الفلسفة صالحة للعقل أصلاً، خصوصاً في كتابه «تهافت الفلاسفة»، وردّ عليه فيلسوف قرطبة إبن رشد المُعجَب بفلسفة أرسطو، مُشدّداً على أن الفلسفة هي الطريق الأخرى التي يستطيع العقل أن يسلكها لفهم مقاصد الشريعة، كما في كتاب «فصل المقال». واستطراداً، يصعب إغفال أن مدرسة فقهيّة كالأشعريّة، أبدت ميلاً كبيراً للأخذ بالتوفيق الذي قال به إبن رشد.
وقبل الغزالي وإبن رشد، تغلغلت الفلسفة في الحضارة العربيّة- الإسلاميّة، خصوصاً عبر تشجيع الخليفة المأمون لها واهتمامه المذهل بترجمة فلسفة اليونان وعلومهم. لكن «قصة العرب» مع الفلسفة لم تبتدئ حتى مع المأمون، إذ اقتضى الفقه أصلاً استخراج أحكام من النص القرآني، عن أحوال الناس والمجتمع، فكيف السبيل إلى التيقّن من صحة التفكير في تلك الأمور؟
هناك من رأى في الفلسفة والمنطق الآتيّين من التراث الإغريقي سبيلاً لذلك، ومن ذلك الطريق جاء فلاسفة عرب كالكندي والفارابي وابن سينا وغيرهم؛ وهناك من رفض ذلك بشدّة، على غرار الغزالي. وبغض النظر عن أشياء كثيرة، لم يترسخ تدريس الفلسفة في النظام التعليمي عربيّاً، خصوصاً في مرحلة ما قبل الدول الحديثة. وبقي الدين عماد الثقافة العميقة للمجتمعات العربيّة. وتشابك ذلك الأمر مع «قدوم» الفلسفة من غرب واستعمار، بل أن الدول التي تبنّت النظام التعليمي الغربي لم تدعم الفلسفة لأنها خشيت على نفسها من تفكير الأفراد بحريّة في شؤونهم.
وعبر مسوح واسعة لكل دولة عربيّة على حدة، يبرهن كتاب «حال تدريس…» على أن مزيج التكفير الديني والقمع السلطوي، منعا انغراس الفلسفة في النظام التعليمي، وأعاقا انتشارها في المجتمع. وبذا، بقي الفرد العربي عموماً، بعيداً عن التحاور المُجدي مع الفكر الإنساني، ولم يمتلك أداة فكريّة تمكّنه من أن يبني لنفسه نظرته المستقلة للدين وتفسيراته. وبوضوح، لم يظهر الفرد- الفقيه عربيّاً، فيما سرت ثقافة أن يكون الفرد مسؤولاً عن مدى تديّنه غرباً بطرق متنوّعة.
ويخطر في بال قارئ كتاب «حال تدريس…»، أن النموذج البعيد عن العنف الدموي والتكفير في تونس والمغرب، يتّصل بنظام تعليمي تأصّل فيه تدريس الفلسفة، فيما هشاشة واصطناع تدريس الفلسفة «يتوازيان» مع دمويّة منفلتة في العراق وسورية، وأخرى كادت أن تطيح النسيج الوطني لمصر، وثالثة فتتت بلداً كالسودان.
_____
*المصدر: الحياة

شاهد أيضاً

العتبات والفكر الهندسي في رواية “المهندس” للأردني سامر المجالي

(ثقافات) العتبات والفكر الهندسي في رواية «المهندس» للأردني سامر المجالي موسى أبو رياش   المتعة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *