الله لا يحب البكائين


*حسن بولهويشات


لسنوات طوال سأشرح ظواهر تركيبية وصرفية كثيرة، وأمسح الغبار عن شعراء وكتاّب مغمورين، قبل أن أصل إلى المرحلة الأخيرة بألم محرج في الظهر وأحجار صغيرة في الكليتين وقطرات بول فالتة، ونظارات طبيّة كبيرة وشعر منتوف وآلة سمع في قوقعة الأذن واعتلال عصبي فظيع، وبلا أسنان ولا أفكار حتىّ.


وكبقية المتقاعدين سأسعد بحفل التكريم، وأحضر ببذلةٍ زرقاء خطوطها عمودية وحذاء بطرف مدبّب وبلا جوارب، وربطة عنق صفراء نكاية بالموضة والخريف، يا الله! كيف غافلتني السنوات وبلغتُ الستين سريعاً كعدّاء اثيوبي ولم أربح لا الذهب ولا النحاس، ولكن لماذا لم أرفع يدي وأكسر بندول الزمن بفردة الحذاء ولو لمرّة واحدة؟ وهم يتناوبون على مدحي واطرائي كما يتناوب الأوغاد على اغتصاب الفتاة العائدة من معمل التعب. نعم لقد حضروا جميعاً، المتقاعدون والمخضرمون والجدد وثلاثة أو أربعة لم يسعفني الزهايمر الغدّار في التعرّف عليهم. وسعدتُ كثيراً بحضور الأستاذة أمل التي طبعت قبلة على خدي الأيسر وجلست جواري كأميرة مهذبة.
أذكر عندما رأيت أمل لأول مرّة وهي تنزل من تاكسي أبيض في تلك الظهيرة من سبتمبر بعيد، تنهدتُ وفكّرت أن الله أرسل اليّ لوحة جميلة في تلك القرية الشماليّة الضّاجة بأشجار زيتون لا حصر لها، لكن مع مرور الوقت فهمت أنّي ضيّعت لوحة الله الجميلة بسبب عمش أصفر في العينين، لقد تعبت معي وأنا أجرجرها من شاطئ الى شاطئ ومن غرف سفلية الى أخرى في سطيحة بيت مهجور قبل أن تقبل الزواج من رجل يكبرها بسنوات وبملامح صخريّة منفرّة وفهمٍ بدائي ومضحك للحياة، بينما واصل الله ارسال لوحاته الجميلة إلى عباده المظلومين، وفي كل مرّة تضيع لوحة جميلة من يد أحد العميان يغضب الإله ويصلنا البرق والرعد.
طبعاً سأتصنّع الفرح والاتزان وأشكر الجميع بكلمات منضبطة ودقيقة ثم أغادر متأبطاً لوحة لفنان مغمور سيهديها اليّ أحدهم، وماذا بعد؟ سأدحرج أيام الله من مقهى إلى آخر لأقرأ الجرائد بالتناوب مع متقاعدين آخرين وأخاطب النادل بلغة المنفلوطي وجرجي زيدان، وأنسى نفسي في دورة المياه لأسمع طرقاً حانقاً على الباب، أما النادل فسيتذمّر من جلستي الطويلة ويمسح الطاولة محاولاً صرفي، وبدوري سأتصنّع البلادة وأواصل الصمود كأي مناضل أشعث وانتهازي.
وكما يتذكر السجين الجدران التي أسند عليها ظهره سأتذكر كل شيء تقريباً وأجفل كبغل:
– ما هي جنسية عبد الرحمن منيف يا أستاذ؟
– سعودي طبعاً.
ـ ولماذا لم يشيروا إلى جنسيته في الكتاب واكتفوا بكلمة «عربي»؟
– لقد أسقطوا عنه الجنسية بعدما قال كلاماً أغضبَ جهات كثيرة.
– وما هو الكلام االذي قاله منيف؟
– لا أدري وبامكانكِ أن تفهمي الأمور جيّداً في ما بعد.
– أنت فاشل وجبان ومكانك بين الدواب، تواصل التلميذة في داخلها.
وفي كل مرة سأعود إلى البيت ستحدث زوبعة في الصالون وتصل سيّارة الإسعاف إلى الزنقة 4 ويتلصص الجيران من شقوق الأبواب والنوافذ، وأشياء أخرى ستقع إلى أن تهرب ابنتي الكبرى مع أحد الغرباء إلى وجهة مجهولة. ويبدأ ابني الصغير في تدخين الحشيش. وتنهار قوّتي الجنسية بالكامل لأمضغ الهزيمة كل ليلة وأستدير جهة الحائط وأتكوّم كقط مطرود من الوليمة بينما ستتأفّف زوجتي وتركلني برجليها المفلطحتين وأصمت.
وماذا أيضاً؟ سأموت بعد عامين أو ثلاثة من فرط اليأس ويأتي من يغسل جثتي بماء فاتر وقطعة صابون مربّعة قبل أن يطمروني في حفرة مظلمة ويأتي عزرائيل ويخبط أعضائي بعصا كبيرة وبين خبطة وأخرى سأتملّى ملامحه الصارمة وجبّته البيضاء وأحاول ألا أبكي، فالرجال لايذرفون الدموع والله لا يحب البكّائين. هكذا فكّرت دوماً.
وهل هناك ما تضيفه؟ سيغيّرون بلاط الغرفة ويأتي من يعبث بأغراضي وقمصاني الملونة، أمّا كتبي فستضيع بين البيوت كما تضيع دماء اللصوص بين القبائل.
______
*المصدر: كلمات/ العدد ٢٦٨٤ 

شاهد أيضاً

كأس وظلال

(ثقافات) كأس وظلال عبد القادر بوطالب تلك الظلال التي طوت تفاصيل أجفاني سارت خلفي ما …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *