سلمان رشدي وجنيّة ابن رشد


* رلى راشد


تتراءى رواية سلمان رشدي الأحدث مُصيبة في التوقيت. ها هنا ينصرف الروائي البريطاني من أصول هِنديّة إلى استخراج بعض الصفحات العقلانيّة في التاريخ الإسلامي، كفعل مواجهة ملحّ ضدّ التطرف والغلو ومجاوزة النصوص، وهذا خيار لا يمكن سوى أن يُحسب له، في هذا الزمن الظلامي الرديء.

لا تزال الأندلس في جزء من ماضي العرب، قطعة في فسيفساء خلابّة لأنها جلبت الدليل على إمكان بناء مجتمع يفسح للتنوير فيصير نعمة عوض أن يكون نقمة. يندفع رشدي متسلّحا بهذه الحقيقة إلى جوار ابن رشد بغية إتمام “حكاية سحريّة”على نسق ألف ليلة وليلة، تتخذ هيئة حديثة وحيث يتصوّر مستقبلا تغزوه جحافل من الجنّ تقدم من دنيا الخرافة، في سياق صراع مفتوح بين قوى الظلمة وقوى النور.
تتمثّل قوى الخير بورثة ابن رشد في حين تتمثل قوى الشرّ بورثة الغزالي “الذين مارسوا فنّ الحظر” وأتوا من الأمس إلى الآن لزراعة الفوضى. يُسمّي رشدي روايته “عامان وثمانية شهور وثمانية وعشرين ليلا”، ويطلق على إحدى حكاياتها هوية “دُنيازات” المتمحورة على ابن رشد الفيلسوف العظيم وقاضي إشبيلية سابقا وطبيب الخليفة الشخصي وتلميذ أرسطو. أما منطلق النص فعام 1195 حين يتعرّض ابن رشد لعملية تشويه للسمعة بسبب أفكاره الليبرالية التي ينبذها متطرفون “زادت سلطتهم واستشروا مثل الوباء في أنحاء إسبانيا العربية”. ها هو الفيلسوف مستدرج إلى منفاه “في قرية أليسانه الصغيرة التي عجّت بيهود لم يعد يسمح لهم بإجهار دينهم وأجبروا على اعتناق الإسلام”.
إلى هذا الحدّ، يغرف نص رشدي في شكل أساسي من التفاصيل الموثّقة في سيرة ابن رشد ليسمح لنفسه بعدذاك بذرّ بعض رماد الخرافة على روايته. والحال انه يتسلّل الى هذا المناخ من خلال صبية في ربيعها السادس عشر تدعى “دنيا” وهو الإسم الذي اقترحه عليها أحد الرحالة مدّعياً انه إغريقي وعنى “العالم”. لم يعترض ابن رشد وهو مترجم ارسطو على هذا التفسير، على ما يكتب رشدي، وإن علم سلفا بأن دنيا يساوي العالم في ألسنة كثيرة، “سألَها لماذا أسمَيت نفسك العالم. لتجيب وهي تنظر في عينيه “لأن العالم سيتدفّق مني وأولئك الذين يتدفقون مني سينتشرون في العالم”.
سيتبيّن لاحقا ان الفتاة كائن خارق وأميرة قبيلة الجنّ النسائية وانها انخرطت في مغامرة أرضية شملت ملاحقة الرجال اللامعين خصوصا. ومثلما استشرفت النبوءة، سيتبدى أن الجنيّة دنيا تمتّعت بخصوبة مذهلة. خلال عامين وثمانية شهور وثمانية وعشرين نهارا وليلا لاحقين (يمنح هذا التحديد الكرونولوجي عنوانه للرواية الصادرة بالإنكليزية) حبلت دنيا ثلاث مرات وأنجبت أطفالا عدة، في الأقل سبعة في كل مرة، والحال ان “جميع أطفالها سيرثون قسمتها الأكثر بروزا. كانوا جميعهم بلا شحمة على مستوى الأذن”.
على رغم ما حاججه إرنست همنغواي في روايته “العجوز والبحر” حول عدم قابلية الإنسان للهزيمة وأنه ربما يمكن أن يدمر غير انه لا يمكن أن يهزم، يستنبط رشدي في روايته ملامح فيلسوف منهك كتم جرحاً عميقا في داخله وتحول إلى رجل مهزوم بنتيجة خسارته معركة حياته العظيمة لمصلحة فارسي متوفىّ بإسم الغزالي الطوسي، وهو خصمه الراحل منذ خمسة وثمانين عاما. يستعيد رشدي كتاب الغزالي “تهافت الفلاسفة” القائم على تهجم صريح على الفلاسفة الإغريق مثل أرسطو وعلى المنطق الفلسفي في الإجمال، ويتمهّل عند ابن رشد الذي ردّ عليه من خلال مؤلفه “تهافت التهافت” من دون أن يوفّق في تقليل تأثير الفارسي. يقول رشدي ان ابن رشد حاول المصالحة بين “المنطق” و”العلم” والعقل” من جهة وبين “الله” و”الإيمان” و”القرآن” من جهة ثانية، وإنما عبثا، وفي المحصلة ألحق به الخزي وألقيت كتبه قوتا للنار.
من اللافت أن يذهب خيال رشدي إلى اختراع جنيّة تتسلل إلى معيش ابن رشد، في حين يفترض بمعتقدات الأخير أن تنفي وجودها حتى. لكنه يبرر هذا الخيار من خلال استدعاء فكرة جميلة تقوم على التوفيق بين ضدين. ها هو رشدي يستدرج الصراع بين عالمي التخييل وعالم المنطق والعلم، ليحقق المحال أن يجعلهما يتحدان.
يؤكد رشدي ان التاريخ غير رحوم مع أولئك الذين يتخلّى عنهم وهو غير رحوم بالقدر عينه مع أولئك الذين يصنعون هذا التاريخ.
أما أمثولة الرواية فتختصر ربما بالجملة التي تجد معناها في الراهن: “مات ابن رشد لكن صراعه مع خصمه مستمر رغم الموت، ذلك ان لا نهاية لحجج المفكّرين العظماء، والحجة هي أداة تحسين الفكر، وهي أكثر الأدوات حدّة”.
ربما نجد من يتعّظ ويفهم ويستنتج.
_____________
*النهار اللبنانية

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *