“مؤمنون بلا حدود” ومضات تنويريّة وأسئلة ملحّة




*علي عبيدات



خاص ( ثقافات )
بدأت، صباح أمس الجمعة 4 سبتمبر 2015، فعاليات المؤتمر السنوي الثالث لمؤسسة “مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث”، في العاصمة عمان في فندق اللاند مارك تحت عنوان ” الدين والشرعية والعنف ” بالتعاون مع مركز الدراسات الاستراتيجية للجامعة الأردنية. 
ويشارك في المؤتمر عدد كبير من الباحثين والأكاديميين من مختلف الدول العربية والإسلامية، بالإضافة إلى مجموعة من الباحثين والأكاديميين والمثقفين الأردنيين، تحت رعاية رئيس الجامعة الأردنية الدكتور اخليف الطراونة الذي ناب عنه الدكتور عزمي محافظة.
وافتتح المؤتمر، مدير عام مؤسسة مؤمنون بلا حدود محمد العاني الذي أكد في كلمته على ضرورة التصدي للقوى الظلاميّة التي جعلت الدين في مأزق بعد شرعنة العنف بعد تأويله بشكل خاطئ، وهو ما يعمل عليه الإرهابيون منذ سنوات، حتى وصلوا إلى ما نراه من ظلاميّة وقتل باسم الدين.
وبيّن العاني أن محورين رئيسين، يتوجب الحديث عنهما في هذا الصدد، لنعرف كيف وصلنا إلى هنا وما هي الطرق التي سلكها الظلاميون ليحققوا ما نعاني منه اليوم، وكان المحور الأول هو شعور الشباب المتطرفين بالتهميش والإقصاء وانتقاص الكرامة على كافة المستويات، سواء كان هذا على الصعيد الوطني أو الإقليمي أو الدولي. ليربط بهذا بين الأرضية التي استند عليها المتطرفون ليصنعوا بيئة حاضنة تستقطب الشباب بوعود إعادة الحق لأصحابه وإنصافهم بعد أن ينضموا لهم ويحققوا رؤاهم.
وتابع العاني، ملخصاً المحور الثاني، في شرح وحل ظاهرة العنف بربطه بين قراءة الدين المغلوطة والخطاب الذي يبث في جسد المنظومة الاجتماعية عبر تحوير الدين وشرعنة الفعل السياسي بثوبه الديني الذي أسبغته ثقافة التطرف والمواربة عبر عزف المتطرفين والمستفيدين من التطرف على وتر العاطفة وإخلال معادلة الدين والسلطة بعد خلطها بالسياسة، الأمر الذي أدى إلى شعور هذه الفئة بعمى الرؤية. 
وضرب العاني مثالاً يلخص استقطاب الشباب، وهو المناداة بالإنصاف وحلّ مشاكلهم مستشهداً بخطاب المتطرفين الذي ينص على إقامة دولة دينية تنفذ الشريعة وتبسط نفوذ العدل وفق النص الديني والتكليف الإلهي، مؤكداً على ضرورة النظر إلى الدين من منظور التسامح والتآخي الذي كلف الله عباده به.
وأثنى الدكتور عزمي محافظة، الذي رعى المؤتمر نيابة عن رئيس الجامعة الأردنية الدكتور اخليف الطراونة، على دور المؤتمر في ترسيخ معاني التسامح وتأطير المحافظة على الدين الذي يحاول المتطرفون تشويه صورته بما أسبغوه عليه من عنف، مؤكداً على استناد الدول العربية على الشرعية الدينية على مدار تاريخها، لافتا إلى أن الدين لن يكون طريقاً للقتل والظلامية التي انتهجها الإرهابيون وكبّدت الإنسان والمكان والتاريخ والمستقبل خسائر فادحة وجب تلافي ما تيّسر منها بالطرق السليمة.
وفي كلمته، أشار مدير مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية، الدكتور موسى شتيوي، إلى ظاهرة الخطاب الديني الضيق التي بدأت تزداد في الآونة الأخيرة، تزامناً مع وتيرة العنف المهولة التي وجب التصدي لها وإيقاف الصراع على أساس ديني لا يمثل الدين.
وأكد شتيوي، على ضرورة العمل الحقيقي في التنوير وترجمة كل الرؤى التي نادى بها المستنيرون والباحثون على مدار عصر التنوير العربي الذي استشهد شتيوي ببعض من وقفاته، مسهباً بالحديث عن جدلية الدين والسياسة وبينهما سيادة القانون وعلاقة الدين بالحياة العامة.
وعن أمناء مؤسسة مؤمنون بلا حدود، ألقى الدكتور عبد الله السيد ولد اباه، من موريتانا، كلمة لخص فيها رؤية المؤسسة وما تحققه على أرض الواقع من أهداف تنادي بها، وقدم قراءة مبسّطة في مؤلفات الفيلسوف اللبناني ناصر ناصيف الذي كرمته المؤسسة في جلستها الأولى. وقدمت له درعها.
وقدم ناصيف نبذة من سيرته التي ربط العديد من محطاتها بالواقع العربي منذ بداية مشروعه الفلسفي وحتى يومنا هذا، مشيراً إلى ضرورة العمل الجاد على بسط نفوذ التنوير وانتشاره لمكافحة الأفكار الظلامية التي يرى ناصيف أن حلها الأمثل بالوعي والعقل ونشر ثقافة التسامح وقبول الآخر، وضرورة إعادة قراءة التراث والدين، لمعالجة العديد من المعضلات التي ندفع ثمن قراءتها المغلوطة والقديمة، هذه الأيام.
وقدم المؤتمرون الذين جاءوا من مختلف الأقطار العربية والاسلامية أوراقاً بحثية ومداخلات اشتركت جميعها بثنائيات منوعة تلتئم أجزاؤها بخط واحد وتتقاطع في منفعة واحدة، وهي التصدي للظلام والظلاميين من خلال إعادة قرءاة حججهم الدينية وتفنيد بطلانها، بقراءة علمية واقعية عقلية أساسها الفلسفة ومراجعة التراث.
ومن الثنائيات التي تداولها المؤتمرون وحرصوا على سبر كنهها؛ العدل والظلم والخير والشر والتسامح والتطرف والدين والدولة والسلطة والعنف، ولم يتوقف الحديث عن هذه الثنائيات -الجدلية- من خلال الاستدلال بالنصوص الدينية التي لها أن تجعل من حجة الظلامي -المزورة- حجة عليه وليست معه، فالأول قرأها وفق الاستجداء العاطفي والتغرير والتغني بالأمجاد والطوباويّة، والثاني انتهج العقل والتحليل والمعرفة والتراث بقراءات سويّة حرص أصحابها على أن تكون أداة تغيير للنهج المغلوط الذي انتهجه من لا يفهمون النص الديني ويغررون بالشباب وفق رؤى إجراميّة خدمها جانب من التراث المتشدد ضمن أخطاء ونقاط ضعف موغلة في الخطورة، نبتت في فكر بعض المتطرفين وامتدت حتى اليوم.
وفي الجلسة الثانية، طرق المؤتمرون أبواب أصول العنف ونصيب المتطرفين في غرسه، وصناعة مواقف الذات والآخر بربطها بصراع الهويات والإيديولوجيّة التي تقولب الدين برمّته على هيئتها،وفق أطماع وتطرف وغلو أصحابها لتنتج لنا جحيم الظلاميين وتترك الجمر الذي ظنَّ التنويريون الأوائل أنه انطفأ، إلا أنه بقي واستشرى في جسد الدول الإسلاميّة التي أهملت جدلية الشرع والشريعة، وشوهت صورة الدين الذي هو في الأصل تشريع للحرية والتعددية.
وفي غير موضع، سأل المؤتمرون أنفسهم وأجابوا -أحياناً- وتركوا الإجابة لمن يسعه التأمل والمشاركة في تأصيل طرح التنوير وانتشاره وتكاتف كل الجهات -الدول والشعوب- للوصول إلى نتيجة عناء المفكرين وأصحاب الرؤى التنويرية التي لها أن توجه إلى صناعة دول حضارية تستوعب الجميع. 
ولم يغب النقد الديني والحديث عن المؤسسة الدينية بما لها وما عليها، ومن هذا، الحديث عن المعنى السياسي للخطاب الإسلامي والرموز الدينية والطائفية على مدار التاريخ الاسلامي بإسهاب في الحديث عن ثقافة الضغينة والتطرف التي نمت كورم خبيث في جسد الأنظمة السياسية الدينية على امتداد مراحل التاريخ الإسلامي.
واشترك النقد الديني وعلم النفس بكل طروحات المؤتمرين، وكان الأبرز طرح العقد النفسية التي هيمنت على المراحل التي أرسى فيها المتطرفون دعائم تطرفهم، كالسلوك من منظور غرائزي والعدوانيّة في النفس البشرية وفقاً للخطاب وطريقة تلّقيه والعنف من منظور العقل الجمعي والكبت وجدليات هيجل وآراء فرويد وباقي علماء النفس الذين جعلوا من مدرسة التحليل النفسي ركناً رئيساً لفهم التركيبة البشرية التي تنتج لنا الطابع العام والنفسي للأفراد والمجتمعات.
ولم تخلُ المشاركات من الحديث عن التحرر والعبوديّة من منظور الدولة والدين، وحظيت حقوق الإنسان بنصيب كبير ركز عليه المؤتمرون، وكذلك ثقافة التسامح ومنطق احترام الآخر وكارثيّة الإقصاء والتهميش والاستبداد كأرضيّة خصبة للتطرف الذي دمغ وأدمى المؤسسة البشرية برمتها، ولن تحّل هذه المزالق -وفق ما تداوله المؤتمرون والمشاركون- إلا بالبحث المعرفي والكلمة الحسنة والعقل، مؤكدين على أن استخدام السلاح يزيد من خطورة العنف ولا يكبح جموحه الظلامي المتأجج.
وعرضت أسرة تنظيم المؤتمر فيلما وثائقيا حول المؤسسة التي يقع مقرها الرئيس في العاصمة المغربية الرباط، كما كرمت عددا من الباحثين الفائزين في مسابقات البحث العلمي التي تنظمها على هامش البحوث والدراسات التي تصدرها المؤسسة بالإضافة إلى مجلتين فصليتين؛الأولى “يتفكّرون”، وهي ثقافية فكرية، والثانية “ألباب” وهي مجلة محكّمة معنية بالدين والسياسة والأخلاق. 
ومن المقرر أن يختتم المؤتمر فعاليته، اليوم السبت 5 سبتمبر 2015، بجلسة حوار مع المفكرين العرب، وهم الأساتذة: احميدة النيفر من تونس، والدكتور رضوان السيد (لبنان)، والمستشار عبد الجواد ياسين من مصر، وعبد المجيد الشرفي من تونس، وإدريس بن سعيد من المغرب.

شاهد أيضاً

أبورياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع لإنارة الطريق

الأديب موسى أبو رياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *