فاس تراث عالمي….بهجة الروح و نكهة الجسد الأندلسي




*ربيعة المنصوري


خاص ( ثقافات )
تنام في حضن جبال الأطلس ، وترقص على إيقاعات الروح والجسد رقصات تاريخية ، مسكونة بألف قبة وضريح ، عبرها كان موطن العلم والأدب يغري أكثر من زائر ، حبلى بالعلوم المختلفة وزاخرة بالقراءات المتعددة للعديد من المخطوطات…هي فاس عاصمة الروح وبهجة الجسد الأندلسي ، عروس فرسان القلم وبيت عشاق الخلوة وملاذ العارفين ، تمنح المحبة للعابرين وتهدي الأمان للوافدين ، جذورها الموغلة في حنايا الزمن لا زالت تحتفظ بخطوات الملوك الذين اختاروها زوجا جميلة وعاصمة لمملكتهم …. هي إذن مرآة السامعين ومحراب الخالدين وموطن الحرف والقلم . 
فاس مدينة لأكثر من أثر…
قوافل دخلتها من المشرق والمغرب ، رحلت إليها من بلاد الشام وبلاد الأندلس ومن أقاصي إفريقيا و غيرها ، للتجارة وللعلم وكل قصدها لغرض ما فقد اجتمع فيها ما تفرق في غيرها ، لكن أكبر ما كان يجذب إليها المحبون من كل مكان هو جامع القرويين الذي تحول من جامع إلى جامعة ومركز علمي تنتشر فيه حلقات الذكر وتدرس فيه كل العلوم العلمية والأدبية ، ليصبح وجهة رئيسية لكل من أراد الاستفاضة في العلوم والتخصص فيها وكذلك مطلبا لطلاب العلم وأملا في الحصول على شهادة العالمية منه لأهمية إجازتها وخصوصيتها. في حين أصبحت الآن معلمة يقصدها الزائرون من كل بقاع العالم ليتأملوا سحر معمارها وجمال فنائها المزين بقطع الزليج الملونة ، وروعة أبوابها الضخمة …. جمال يأسر حتى غير المسلمين ليقفوا أمام الجامع يتأملون حضارة ضاربة في القدم .
السائرون إليها والداخلون إلى عوالمها يأسرهم بهاؤها وتستظلهم دروبها الضيقة الباردة ليجلسوا على عتبات بيوتها ، تخطف أبصارهم سماؤها وحشود الطيور المحلقة في الفضاء …هكذا كانت فاس منذ القديم قبلة لعشاق الحِرف اليدوية ولمُحبي العلم كما كانت ملاذا وموطنا للهاربين من الظلم ، فضمت إلى صدرها الكثير من الوافدين اندمجوا مع أهلها ليصبحوا فيما بعد جزءً من مكونات أهلها ، ليتكون المجتمع الفاسي إلى جانب سكانه الأصليين من خليط فرق شامية وأندلسية و قرطبية ، إشبيلية و إفريقية وعراقية ، إستقرت في فاس ومارست نشاطها هناك سواء في الحقل العلمي أو التجاري وساهمت بشكل فعال في تعميق حضارتها .
ومن ثم فتراب فاس و أحجار أبوابها الضخمة التي لازالت تقاوم السنين ثابتة ، شامخة تشهد على آثار كل من مر من هنا ، أثر المتصوفين أصحاب الكرامات مثل صاحب الفتوحات المكية الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي و العارف بالله صاحب الحكم العطائية ابن عطاء الله السكندري بالإضافة إلى الفيلسوف ابن رشد و المؤرخ ابن خلدون صاحب المقدمة ثم لسان الدين ابن الخطيب الذي دفن في جنباتها بباب المحروق … كثيرة آثارهم التي تركوها هنا ومتعددة مخطوطاتهم التي أودعوها خزانات فاس و التي تؤرخ لإقامتهم بين جدران جامع القرويين إما طلبة يأخذون العلم أو أساتذة يدرسونه .
ـ موسيقى الروح تختزل المكان …..
لكل روح إيقاع يحرك جنباته ويتحكم في تفاصيل إنسانيته ، وفاس مرة كمان أنيق يعزف عليه الأدارسة في خطواتهم الثابتة نحو تأسيس شامخ لمدينة فاس ، و مرة أخرى قيثارة حالمة يلاعبها المرينيون ويجلبون إليها آلاف الكتب والمخطوطات ويغنون مكتباتها بمختلف العلوم ، وبينهما تظل عودا فاصلا بين زمن وآخر تثريه حقبة العلويين . وأنت تتحرك بين دروبها وتتأمل أسواقها تأسرك أصوات تأتي من جنبات مختلفة ، أصوات المطرقة التي تنحت على أواني النحاس دوائر ومنمنمات بأنامل رقيقة ، وصوت خرير الماء وهو ينسكب من النافورات وسط فناءات البيوت القديمة دون أن ننسى السقاية التي تقبع في ركن الأزقة وانسيابها الرومانسي ….أصوات تراتيل القرآن في أكثر من مسجد وصوت الآذان الذي يعلو محلقا في سمائها …جعل منها مدينة الموسيقى الروحية وخلق من فضاءاتها أمكنة لمزاولة القرب النفسي من عوالم الغيب ، لتعيش اليوم عدة مهرجانات تعتمد في الأساس الثقافة الصوفية ومن ثم فالموسيقى الروحية تتقاطع مع الموسيقى الأندلسية التي لازالت تسكن أرواح الساكنة ، يحفظون أبياتها ويتقنون ترانيمها ، موسيقى رحلت إليها عبر رجالات قدموا من الأندلس و حملوا معهم حضارة غنية بعلوم مختلفة ليأثثوا فضاءات فاس البهيجة .
ثم موسيقى الملحون التي تحكي اليومي وقصص الحب الجميلة التي نشأت في هذه الفضاءات المعتقة بالكثير من الأحلام . مزيج روحي يجمع كل هذه الأشكال من الإيقاعات التي تحكي وهن النفس وتطلعها لمعانقة اللانهائي .
ـ عطر المتناهي وسر البقاء…
فاس تزهو بعطرها الخاص المحمل بالكثير من أشجار الزيتون المحيطة بها وأزهار الليمون المفتحة ، الكثير من الأعشاب الطرية والغنية بعبقها و التي تزرعها النساء في سطوح البيوت الواسعة المطلية بالجير الأبيض الناصع والمحملة بأكثر من دلالة أعمقها نقاء سريرة أهلها ، رائحة الشاي المتسربة من الأبواب الخشبية الموصدة والتي لا تفتح إلا نادرا ، ونكهة البخور المنبعثة من ضريح المولى إدريس حيث يرقد تحت القبة الخضراء و حيث تجتمع النساء والرجال في زيارات مختلفة ، شموع ملونة توقد للتبرك و زيارات تحمل العديد من الدلالات ….رائحة العود المختلطة بحبات البخور المعطرة تؤنس ليالي السماع وسهرات الذكر التي ينتشي بها المحبون في حلبات الحب الإلاهي والحضرة القدسية ….ماء الورد وماء الزهر يسقيان الزوار في ليالي المديح ومواسم المولى إدريس ، لتختلج الكلمة بالعشق المنبعث من محبة الله السارية في الأوصال … نكهة خطوات المجذوب المتحرك بين الأزقة والمحاصر بنظرات الناس ، يجلس في الجنبات يطل على المساجد ، يرفض العطاء ويبتهل إلى السماء ـ والمجذوب لغة هو من جذبه الله إليه ينطق بالحكمة ، واصطلاحا هو الرجل المجنون المبروك الذي يخاف الناس غضبه ومن ثم يعامل برفق وكرم ـ . 
عطر الماء المعبئ في قلل من الطين المطلي بالقطران وأواني النحاس ، رائحة الحناء والقرنفل تلغي المسافات بين سوق الحناء ودار الدبغ حيث تلفح الزائر روائح الجلود النتنة وروائح الأصباغ التي يشتغل بها العمال …. هنا في فاس رائحة المكان هي التي تدلك على هويته وإسمه ، ترسم لك خريطة المدينة فسر بقائها هو سر عبقها الساحر ، كل باب من أبوابها يأخذك إلى أمكنة مختلفة الرائحة والمذاق لكنها تتوحد في إنصاتها الكوني لسمفونية التاريخ.
ـ نشيد المحبة وعبق الأولياء ….
فاس ، بلد الأولياء والعلماء ومجمع زوايا متعددة يقصدها المريدون من كل مكان ، مثل الزاوية التيجانية التي يفد إليها آلاف المريدين كل سنة في ذكرى المولد النبوي ، هذه الزاوية التي أسسها سيدي أحمد التيجاني وقد بناها في بقعة كان يتعبد بها ، والزاوية التيجانية امتداد إفريقي ، جعلت من فاس محجا للكثير من أبناء الزاوية التيجانية . ثم الزاوية البوتشيشية والتي تعد من الزوايا المهمة المتفرعة عن زاوية الأم الموجودة في شرق المغرب . ثم الزاوية الدرقاوية التي أسسها العارف بالله مولاي العربي الدرقاوي والتي تتفرع عنها عدة زوايا أخرى ….إلى غير ذلك من الزوايا وأضرحة العلماء والفقهاء التي تتربع فوق تربة فاس الخالدة . قلب هذه البيوت تنشر المحبة والصفاء الروحي لتستقبل الوافدين من كل مكان ، ولتطعم عابري السبيل وتستضيفهم فيها وتنشر ثقافة التسامح والتواصل السلمي ، فتكون في أغلب الأحيان سكنا للنفوس المتوترة و مرتعا للأجساد المتعبة .

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *