مكافحة الذاكرة


هيثم حسين


بعيداً عن الخوض في غمار القيود المدرسيّة، يمكن الاستئناس بسطوة الذاكرة وقوّتها كي ينطلق المرء إلى الغد.
الذاكرة الحيّة المتوقّدة تمنح أصحابها امتياز النهْل منها باستمرار، ولاسيّما أنّها تمثّل الخزّان المتجدّد المفعم بالقصص والحكايات والصور. كلّ حادثة، صغيرة أو كبيرة، في الواقع قد تعيد إلى الأذهان ما يماثلها أو يقترب منها من الذاكرة، ما يمنح المرء فسحة للمصالحة بين الأمس والغد، في مسعى أن تكون الذاكرة وسيلة مصالحة منشودة.
بعيداً عن أيّة تعريفات علميّة للذاكرة، وبعيداً عن الخوض في غمار القيود المدرسيّة، يمكن الاستئناس بسطوة الذاكرة وقوّتها كي ينطلق المرء إلى الغد، وتغدو الذاكرة في كثير من الأحيان مصدر قوّة لأصحابها، تسبغ عليهم المشروعية والأصالة، وتمنحهم الأمان المفترض المأمول، لأنّها تؤكّد تشبّثهم بالانتماء وتبقيهم امتداداً للماضي الذي يدلّ على الاستمرارية والديمومة بالنسبة إليهم.
الذاكرة بالنسبة للمثقّف، الأديب، الشاعر، الروائيّ، الفنّان، نبع استلهام دائم، يعود إليها ليبدع أعماله، يستلهم منها العبَر ويستدعي الصور، وهي لا تنفكّ تتجدّد بالإثارة وتتّقد بالحماس.
وقد تشكّل الذاكرة في الوقت نفسه عبئاً على صاحبها، حين يروم التخفّف من الذكريات المؤلمة التي يحتفظ بها، ولاسيّما عن عصور الإقصاء والتهميش والخراب.
في الحالة السوريّة مثلاً، وهي مثال ونموذج عن حالات مشابهة في العالم العربي، فإنّ مخزون السوريّ في العقود الأخيرة، بعد حكم البعث وطغيان حافظ وبشار واستبدادهما، ونسفهما لأسس الحياة السوريّة، يظلّ بؤرة للصراع والأحقاد. إذ تمّ احتكار الوطن في الشخص، وهذا ليس جديداً، لكن الإجرام تشعّب لتكون الثقافة إحدى ضحاياه، فقد أسّس الديكتاتور لنمط معيّن من المثقّفين.
كتب أولئك الكتبَة النصوصَ في تمجيده، وتبارى شعراؤه بتدبيج الأغاني الممجّدة له، وتلك الأغاني والنصوص بحكم تكرارها المَهول في كلّ مكان؛ في المدرسة، في الشارع، في الجامعة، عبر الشاشة الوحيدة والإذاعة اليتيمة، شكّلت مخزوناً مرعباً لدى أجيال من السوريّين، ولم ينجُ منها إلّا قلّة ممّن كافحت تلك الممارسات ودفعت ضريبة مكافحتها سجناً وتعذيباً وإقصاء وتهميشاً وتهجيراً وتشريداً وغير ذلك من الممارسات الإجرامية بحقّها.
إن كان يقال إنّ الإنسان نتاج ذاكرته وذكرياته التي يحتفظ بها، أو هو مدفوع في جانب من ممارساته وتصرّفاته بمخزونه، فهل يمكن أن يتسبّب ذلك بالوقوف عقبة أمام الانطلاق نحو الغد؟ ولكن كيف قد يشكّل العقبة وكلّ ما يتسلّح به هو عبارة عن صور هائمة في الفراغ وتداعيات مطلقة في فضاء التخيّل والاستيهام..؟
عادة ما يحتفي المرء بالذاكرة ودورها الهامّ في الانطلاق نحو الغد، ولكن كيف سيكون حال مَن يمتح من الذاكرة في محاولة منه لمكافحتها؟ وهل بالإمكان مكافحة الذاكرة واقعيّاً؟ متى يجد المرء نفسه أمام امتحان الذاكرة وخيار مكافحتها المؤلم..؟
ألا يتسبّب ذلك، إن تمّ، بقطيعة مع الماضي؟ أليس الماضي مرتكزاً ومصدرَ عبَر للآتي؟ هل يمكن ترويض الذاكرة والذكريات بحيث يخفّ أذاها وتستقى منها العبَر؟ متى يتولّد الشعور بضرورة التناسي؟ هل بالمقدور استعارة عملية فنّيّة بإحلال ذكريات محلّ أخرى؟
هل يتصالح السوريّ مع ذاكرته المترعة بالفجائع يوماً ما، وكيف يمكن أن يكون ذلك؟ ألم تراكم الثورة السوريّة ذاكرة مختلفة تكفل بمصالحة السوريّ مع الغد بعيداً عن علل الماضي وموبقاته؟ كيف يمكن تحقيق التوازن النفسيّ ثقافيّاً بين ما كان وما يكون؟ هل ستشتدّ الحاجة مستقبلاً إلى مكافحة الذاكرة أم إلى تفعليها؟
أسئلة كثيرة تواجه المثقّف السوريّ في المرحلة المقبلة بنوع من التحدّي الظاهر، بانتظار نوعية وطريقة استجابته الإبداعيّة لها.
العرب

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *