في ذكرى رحيله.. صلاح عبد الصبور شاعر المعادلات الصعبة


محمد فايز جاد

صلاح عبد الصبور أحد أهم الوجوه التي أطلت على الوسط الثقافي العربي في القرن العشرين، والتي أطلت من باب الشعر، سواء في القصيدة أو في المسرحية. عدة ألقاب أطلقت على عبد الصبور منها رائد حركة الشعر الحر ورائد المسرح الشعري، ولكن ثمة لقب غاب عن الجميع كان هو الأجدر بعبد الصبور، ألا وهو شاعر المعادلات الصعبة. 

عبد الصبور الذي ولد في الزقازيق عام 1931 نشر مجموعته الشعرية الأولى “الناس في بلادي” عام 1957، هذه المجموعة التي لا تحظى بالأهمية فقط لكونها المجموعة الأولى لواحد من أهم شعراء العصر الحديث، ولكنها أيضا كانت بمثابة الظهور الأول للشعر الحر في الساحة الأدبية العربية، بعد قرون من سيطرة وسيادة الشعر التقليدي. 
كانت المعادلة الصعبة التي على عبد الصبور أن يحققها هي أن يقدم هذا النمط من الشعر “المستورد” الذي لم يعرفه العرب، إلى وسط عربي مغرم بالشعر التقليدي ولا يقبل أية صورة للشعر إلا في هيئة شطرين كاملي التفعيلات. وبالفعل نجح في ذلك نجاحا كبيرا؛ إذ استساغ القراء شعره بشكل غير متوقع واستطاعت قصائده أن تحتل مكانا فسيحا في صدور الناس. 
وفي وسط شعري يقع غالبية الشعراء فيه فريسة لمعضلة التعقيد، التي وقع فيها بعضهم  ظنا منه أن التعقيد هو السبيل الوحيد لأن يحترم الناس الشعر، وأن الشعر البسيط المقدم في لغة سلسة لا يحترمه الجمهور، في حين لم يستطع آخرون أن يقدموا أفكارهم المعقدة في لغة سلسة عن عجز، في هذا الوسط كان عبد الصبور أمام معادلة صعبة أخرى عليه أن يحلها، حتى يقفز فوق أسوار التعقيد التي حبست شعراء جيله، أو هم حبسوا أنفسهم فيها. 
هذه المعادلة استطاع عبد الصبور أن يتعامل معها ببراعة في دواوينه كلها “الناس في بلادي”، و”أقول لكم”، و”تأملات في زمن جريح”، و”أحلام الفارس القديم”، و”شجر الليل”، بالإضافة لـ “الإبحار في الذاكرة”. في كل دواوينه، استطاع صلاح عبد الصبور أن يقدم أكثر القضايا الإنسانية تعقيدا في لغة سلسلة بسيطة أقرب للغة اليومية استساغها الجمهور العادي، ليحقق التوازن بين رقي المعنى وفخامة اللفظ، وليخرج بشعره من دائرة النقاد الضيقة، إلى دائرة الجمهور الواسعة. 
كان عبد الصبور أحد رواد المسرح الشعري؛ نظرا لتأثره بالمسرح العالمي، والتحامه بأعمال كتاب كبار كلوركا و ت . س . إليوت، ومن هذا التواصل استطاع عبد الصبور أن يقدم مسرحا شعريا عربيا له ملامح عربية خالصة بعيدة عن أية شبهة “فرنجة”، هذه الشبهة التي وقع فيها كثيرون غيره حاولوا نقل المسرح إلى بلاد لغة الضاد. 
المعادلة الصعبة التي كان على عبد الصبور أن يحلها في المسرح هي إحداث التوازن بين الجانب الشعري والجانب الدرامي للمسرحية الشعرية. وذلك أن معظم المسرحيات الشعرية التي عرفها العرب آنذاك غلب فيها الطابع الشعري على الجانب الدرامي حتى بدت كقصيدة طويلة يمكن إلقاؤها مباشرة دون تكلف عناء الديكورات والأزياء والآداء. 
في “الأميرة تنتظر”، و”مأساة الحلاج” و “بعد أن يموت الملك”، و “مسافر ليل” و “ليلى والمجنون”، استطاع عبد الصبور أن يقدم مسرحية شعرية متكاملة البناء، سليمة من الناحية الدرامية، تمتلك القدرة على الإمتاع دراميا إلى جانب الإمتاع الشعري. 
بيد أن أصعب معادلة حققها عبد الصبور في مسرحه الشعري كانت في “مأساة الحلاج” تحديدًا. فهذه المسرحية المستوحاة من التراث، والتي تقدم قصة مأساة الصوفي الشهير الحسين بن منصور الحلاج، لم تقف فقط عند التاريخ وإنما صبت الواقع في قالب التاريخ، ورسمت الحاضر بصورة الماضي، وقدمت قضية معاصرة في بناء تاريخي، لتخرج مسرحية فكرية من المقام. 
وهنا تكمن المعضلة، فكما كان يردد الأستاذ توفيق الحكيم دائما فإن المسرحية الفكرية مسرحية تقرأ فقط، ويتعذر تقديمها على المسرح؛ نظرا لعدم قدرتها على الإمتاع من جهة؛ ونظرا لصعوبة المحتوى الفكري الذي لن يستطيع المشاهد أن يتلقاه شفهيا من جهة أخرى. 
وكانت هذه هي المشكلة التي واجهت الحكيم في مسرحياته الشهيرة التي كتبها؛ إذ ظلت حبيسة أرفف المكتبات غير قادرة على التجسد حية أمام الجمهور على خشبة المسرح، وحتى تلك التي تم تمثيلها ظل هناك شك في إمكانية نجاحها، ومدى قدرة الجمهور على استيعابها. 
ولكن عبد الصبور تجاوز هذه المعضلة بمسرحيته إذ قدم مسرحية فكرية تطرح مشكلة فكرية بحتة، في قالب درامي محكم يمتلك كل مقومات العمل الفني، كان قادرا على الظهور بقوة على خشبة المسرح، مقدما الإمتاع، وناقلا الفكرة بسلاسة ودون غموض أو إغراق في الرمزية أو التعقيد. 
34 عاما مرت على رحيل صاحب “مأساة الحلاج” الذي رحل بمأساة تركت في قلوب محبيه غصة لا تزول؛ ففي 13 أغسطس 1981 كان عبد الصبور في زيارة للشاعر الشهير أحمد عبد المعطي حجازي إثر عودة الأخير من باريس، وهناك تلقى عبد الصبور نقدا قاسيا من حجازي وزملائه الذين اتهموه بممالئة السلطة بعد توليه منصب رئيس مجلس إدارة هيئة الكتاب، ليصاب حجازي بأزمة قلبية أودت بحياته.
بوابة الأهرام

شاهد أيضاً

أبورياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع لإنارة الطريق

الأديب موسى أبو رياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *