فواجع عربية تنتظر من يكتبها


*فاضل السلطاني


هل ارتفع الأدب السوري إلى مستوى التراجيديا السورية؟ وقبله، هل ارتفع الأدب العراقي إلى مستوى التراجيديا العراقية؟ السؤالان مشروعان، وأن تستدعي الحالتان إحداهما الأخرى وتذكر بها، أمر مشروع أيضا. فسوريا والعراق مستنزفان منذ منتصف القرن الماضي.. استنزفتهما، على خلاف البلدان العربية الأخرى التي عرفت فترات استقرار طويلة على المستوى الاجتماعي على الرغم من الهزات المتوالية، الانقلابات العسكرية الدموية المتكررة، والقمع الداخلي الذي كان مقنعا إلى حد ما في سوريا قبل 2011، ومعلنا دائما في العراق، والإبادة الشاملة كما في حماه في سوريا، وقسم من مدن وسط العراق تجسدت في 270 مقبرة جماعية.
ما إن يهدأ هذان البلدان عقدا، وإن متعثرا، من الزمان حتى يعصف بهما، في فترات متقاربة، عقد تال من الدم والخراب.. كأنما يراد لهذين البلدين ألا يهدآ.. ألا يكونا بلدين طبيعيين.. ما إن حدث انقلاب عراقي في الثامن فبراير (شباط) من 63 قتل فيه في الأقل 50 ألف إنسان في غضون أيام، وسجن وعذب ونفي آلاف آخرون؛ من العالم الفيزيائي الشهير عبد الجبار عبد الله، إلى الشاعر محمد مهدي الجواهري، وبينهما المئات من المثقفين؛ شعراء وكتابا ورسامين ومعمارين، حتى حدث انقلاب سوري في الثامن من مارس (آذار)، أي بعد شهر واحد فقط. وكلاهما على يد واحدة: حزب البعث العربي الاشتراكي.
لو عددنا كل الكوارث التي مرت بهذين البلدين، منذ ستينات القرن الماضي، لما عادلت الخراب المادي والاجتماعي والثقافي والأخلاقي الذي أحدثه هذا الحزب الذي تشكل على يد ميشال عفلق وصلاح البيطار في دمشق عام 1947 متأثرا أساسًا بالمنطلقات الفكرية لحزب هتلر النازي في تبنيه للفكر الشمولي الذي أراد من المجتمع كله أن يؤمن به بالقوة تحت شعارات هائمة، مثل الوحدة والحرية والاشتراكية، التي أول من أساء إليها هو.

الفرع العراقي لهذا الحزب، أفرغ العراق مرة أخرى في نهاية السبعينات الماضية حين جاء بانقلاب آخر، من خيرة علمائه ومعمارييه ومثقفيه وكتابه، لتبدأ واحدة من أكبر التراجيديات الثقافية في القرن العشرين، بعد التراجيديا الثقافية الألمانية على يد هتلر. ولم ننتظر طويلا حتى حصلت التراجيديا الثقافية السورية على يد الحزب نفسه، ولا تزال مستمرة لحد الآن. مئات المثقفين السوريين موزعون الآن بين المنافي، ومئات أخرى تحت الأرض في الوطن المنكوب تحت أنظار العالم المتواطئ، بشكل من الأشكال، عربيا وعالميا، كما تواطأ من قبل في أمكنة كثيرة، لتكون أكبر تراجيديا ثقافية في هذا القرن، لحد الآن.

هذه التراجيديات الإغريقية بكل معنى الكلمة قد لا يمكن استيعابها وهضمها حسيا وذهنيا في فترة قصيرة لتتحول إلى أعمال أدبية تقترب من فجاعتها. إنها تحتاج إلى زمن طويل، وإلى استقرار شخصي واجتماعي يتيح التأمل في طبيعتها وأسبابها، ومساراتها ومآلاتها، وانعكاساتها المدمرة على الشخصية الإنسانية. فالإبداع تتحكم به قوانينه الخاصة، ويتطلب شروطا معينة، وأولها الشرط الذاتي الخاص بالمبدع ذاته، ليستطيع أن يقدم لنا عملا مستوفيا شروط الإبداع الفني، يكشف فيه عما حصل، وكيف ولماذا حصل، وأين انحرف التاريخ، عبر رؤية شاملة تتجاوز الحدث، من دون أن تفقده واقعيته المهولة. لقد احتاج تولستوي، على سبيل المثال، إلى أكثر من نصف قرن ليكتب روايته الخالدة «الحرب والسلام» عن حملة نابليون على روسيا.

وبالطبع، هناك استثناءات دائما، وحالات خاصة. فرواية مثل «صمت البحر» لجان بريله، الذي اشتهر باسمه المستعار فيركور، قد كتبت وسط هدير الدبابات الألمانية في شوارع باريس عام 1942 عندما كانت فرنسا تحت الاحتلال الألماني. وكشفت هذه الرواية القصيرة مشهد الرعب كله بسوية فنية عالية، ولهذا السبب قرأها الملايين في كل أنحاء العالم، وسيظلون يقرأونها.
_______
*الشرق الأوسط

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *