ثقافة الهامش


*يوسف ضمرة


عندما يعتقد الغرب (ماكس فيبر مثالاً) أن الفن معطى غربي تماماً، وأن الموسيقى تطورت في الغرب لأنها أصيلة في ثقافته، وليست كما هي في الثقافات الأخرى، فإن مثل هذا الكلام يعطينا انطباعاً واضحاً عن مركزية العقل الغربي، وهي مركزية تتعدى الفن والموسيقى إلى الثقافة الغربية برمتها.
في هذه الحال، يكون من حق الغرب أن يستعمر الشعوب الأخرى، لنقلها من الظلمات إلى النور، ومثل هذا الكلام ينم عن «شوفينية» مقيتة، تبرر في نهاية المطاف أشكال الاستعباد والقتل والتدمير والتخريب، بحجة الارتفاع بمستوى الشعوب المتخلفة.
إن نظرة سريعة إلى كل ما جرى في العالم العربي منذ قرن وأكثر حتى اليوم، تؤكد رؤية «فيبر» وتهتدي بها، لذلك فإن مصطلحات كالحرية والديمقراطية ليست أكثر من أدوات تم استخراجها من الثقافة الغربية، لتشكل هدفاً «إنسانياً» للغرب، الذي نجح في الاتكاء على نخبة عربية علمها ودربها لتكون رأس جسر للثقافة الغربية في بلادنا.
لا أود أن يستبق أحد هذا الكلام، ليظن أننا ضد الحرية والديمقراطية على إطلاقهما، لكن الحرية والديمقراطية منتجان ثقافيان، ينبغي لهما أن يضربا جذورهما في الأرض أولاً، لا أن ننقل شكل كل منهما في الغرب ليصبح جزءاً من حياتنا.
وعلى سبيل المثال، الديمقراطية تنطوي على انتخابات لممثلي الشعب، لكن الانتخابات ليست الديمقراطية، وجود برلمان هو مجرد تجلٍ للديمقراطية، لكنه ليس الديمقراطية.
بالعودة إلى مثال الموسيقى، فإن اعتبارها فناً أصيلاً في الغرب وغير ذلك في المجتمعات الأخرى، يناقض فكرة التعليم والنقل، فالفن الأصيل لا يُعلم ولا يُنقل، ربما يتم تقليده أو تقبل منجزاته كفن أصيل، لكن إنتاجه سيظل حكراً على الأرض التي ضرب جذوره فيها. هي مجرد أكذوبة فقط، يبرر بها الغرب ظمأه للهيمنة والاستعباد والسيطرة على مقدرات الأمم التي يعتبرها أقل شأناً. فالفن هو أحد معايير الرقي الإنساني. والقول إن أمماً لديها فن أصيل، وأخرى محرومة من هذا الفن، يعني ببساطة أن هنالك أمماً أكثر رقياً وأكثر مقدرة على إنتاج الحضارة من غيرها. ولأنها كذلك فهي ترى أن من واجبها أن تقوم بعمل ما للارتقاء بتلك الأمم والشعوب المتخلفة.
من حيث المبدأ الإنساني، يبدو مثل هذا الكلام سليماً، فيما لو اقتصر على معناه، وقد رأينا كيف عاد رسل العلم العرب من أوروبا، حاملين أفكاراً حديثة عن المجتمع وتطوره وآليات هذا التطور. لكن الغرب لا يريد ذلك، الغرب يريد أن نتماهى معه في الشكل؛ العمران والسلوك اليومي والاهتمامات السطحية. وهو ما أخذ يظهر أخيراً في مجتمعاتنا، لكن المشكلة الحقيقية تتمثل في بنية اجتماعية عربية مختلة، ومثل هذه البنية تتعرض دائماً لطفرات وهزات وتقلبات عاصفة. بينما المجتمعات الغربية أنجزت بنيتها المستقرة، وبالتالي فهي قادرة على معالجة بعض الاختلالات التي تمسها بين حين وآخر، في سياق تطور طبيعي دون هزات أو طفرات أو تقلبات عاصفة.
لا تنقص المجتمعات العربية المقدرة على إنتاج ثقافتها الخاصة بها، بما في ذلك الموسيقى، لكن ما يعيبها هو إلحاقها ثقافياً ببنية ثقافية غربية تعتقد أنها الأصل، ففي مثل هذه الحال، يصبح كل ما تنتجه المجتمعات العربية ثقافياً هو تنويعات على ثقافة غربية مركزية. وما يعزز هذه الحال، هو انخراط مثقفين عرب في هذا المشروع، بغض الطرف عن النيات!.
______
*الإمارات اليوم

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *