«.. الفراشة»..مملكة فقدت بعض الألوان


محمد حسن الحربي

أمضيت سحابة يوم كامل أقرأ رواية «مملكة الفراشة» لمؤلفها الروائي العربي واسيني الأعرج، فخرجت بملاحظات لا تنقص من أهمية الروائي بقدر ما هي «تحية تأشير» عابرة على قارعة دربه نحو القمة الأعلى، خصوصاً إذا ما استمر على هذه السيولة وبالحماسة المشبوبة نفسها.. (أكمل المؤلف حتى الآن 20 عملاً بين رواية وقصة)..

لطالما كانت الرواية تخصب الخيال، وتنقل المرء إلى عوالم افتراضية فيها الفكرة والسرد الفني والتشويق والمتعة.. «المتعة» تأتي في المقام الأول عندي، وكنت وما زلت أعدّها العنصر الأول والرئيس في أي عمل سردي أدبي، أقرأه أو أشارك في تحكيمه، ولطالما كانت الأفلام السينمائية الأجمل والأكثر إثارة لديّ، هي تلك المبنية على الروايات وهي الأقل عدداً في قائمة السينما العالمية..
«مملكة الفراشة» تعدُّ الرواية الثالثة التي تصدرها محلياً «دار الصدى» للمؤلف في خمسة أعوام، ضمن مشروعها التنويري الهادف إلى تعميم الفكر السليم والرزين، وتوسعة دائرته ليصل إلى القراء في كامل الجغرافيا العربية. تاريخياً، كان هناك مشروعان عربيان سابقان لا ينكرهما أحد، الأول مشروع سلسلة «اقرأ» التي كانت تصدر عن دار الهلال المصرية، ومشروع ترجمة الألف كتاب، الذي كان يشرف عليه المفكر والأديب ثروت عكاشة، إبان العصر الذهبي للثقافة الشعبية في عهد ابن العرب الراحل جمال عبدالناصر..
ملاحظات
الروائي واسيني الأعرج غنيٌّ عن التعريف، ويعدُّ اليوم أحد أبرز الكتاب في الساحتين الأدبية والثقافية العربية و«الفرنكوفونية» معاً، فهو ليس أديباً فقط، بل هو محاضر يقترب من أن يكون مفكراً له مريدوه وطلبته وعشاق فنه. لذلك، ورغم أنني أعده زميلاً في «الكار» كما يقول الشاميون، فإنني قد أبوء بغضب قرائه الكثر لما قد يعتبرونه «تطاولاً» مني على قامة علم. ما يهمني ههنا هو واسيني الأع رج نفسه، ففي منايَ أن يكون عنده روح رياضية تضمن تقبله لهذه الملاحظات الخفيفة العابرة..
ملاحظتي الأولى، تتعلق بالغلاف: فهو علاوة على أنه غير جيد، ذكرني للوهلة الأولى بأغلفة كتب الأزياء أو فنون الطبخ الشرقية. إن العمل الروائي غالباً ما يكون رزيناً، حكيماً، فيه خلاصات النضج والتجارب الحياتية، وعلى علاقة سيئة بالزخرف، وجيدة بما هو جوهري من أسئلة الوجود الكبرى، وتنهيض عوالم فنية متوازية يفيد منها الإنسان في حياته العملية المضطربة. الرواية مجرة زمنية، وفي جوفها تحمل تقلبات الطبيعة المتوحشة.. الطبيعة التي تدير ظهرها أحياناً لما هو جميل وإنساني، لكن في الوقت ذاته، بإدبارها ذاك تستفز غريزة الافتراس لدى بعض من بني البشر..
ملاحظتي الثانية، تتعلق بالصور المستعارة والتشبيهات والدراما المضمرة في النص: فهي، لأنها مسبقة الاستخدام من المؤلف نفسه، لورودها قبلاً في عدد من أعماله الماضية، أصبحت «فاقدة الدسم» ليس فيها تلك الدهشة التي يحاول الأدب البديع أن يتميز بها ويتجلى، وأمر كهذا تدخل فيه تراكيب اللغة والأسلوبية ومحاولة كسر موفقة لجاهزية الإشارات في اللغة، لكن الكاتب هنا لم يوفق كما سنتبين في مقتطف من الرواية ذاتها، لقد اقترب كثيراً، واسيني الأعرج، من اللغة المحكية المتداولة، والعادية، تلك التي غالباً ما نقرؤها في الصحافة اليومية، ونسمعها في المسلسلات التلفزيونية.. «ربما لأنه يقضي جزءاً كبيراً من وقته في محطات التلفزة»..
ملاحظتي الثالثة، تتعلق بالأخطاء النحوية والتقديم والتأخير في تراكيب الجمل اللغوية.. «وهذه ربما أوقفتني لأني من المهتمين والحريصين على المحتوى العربي على الشاشة العنكبوتية». ثمة استسهال كبير في هذا الشأن..
ملاحظتي الرابعة والأخيرة، أقول: إن الكتابة الأدبية لا يمكن أن تكون كتابة أفقية، بمعنى إما أن تكون وعظيَّة، وإما أن تكون «عبرويَّة».. التفكير في العبرة، بعيداً عن فلسفة العمل الكتابي الأدبي نفسه القائم أساساً على الأسئلة الوجودية الكبرى «فالإنسان يصعب عليه تقبل كيفية صناعة السفينة أو قيادتها، قبل أن تحدثه عن البحر وعوالمه المتقلبة، عن فضاءاته التراجيدية، وأفخاخه و«مشانقه» المميتة، وابتهاجاته القليلة». وليعذرني أديبنا، وزميلنا في الشغل الأدبي، بالقول: إن الكتابة الأفقية هي «مشنقة» المشاهير..
نصيحة
أما نصيحتي لكاتبنا العربي الذي نعتز به والآخرين ممن انحازوا بلا شروط، إلى الثقافة والأدب وإلى الكتابة ممارسةً، وإلى تمثل القيم المعرفية، وإلى التفاؤل كجزءٍ مهم من دور الكتابة وغاياتها.. نصيحتي هي إحالة إلى أسماء «وربما معانٍ».. أسماء تركوا ما خلد ذكرهم على المستوى النوعي وليس الكمي، ومنهم: الكاتب المكسيكي خوان رولفو، لم يترك سوى عملين فقط اعتبرا «أنجيلا» أدبياً للكتاب على مستوى العالم: رواية بدرو بارامو ومجموعة قصص السهل المشتعل. الكاتب الأميركي وليام فوكنر «الذي اعتذر عن تسلم جائزة نوبل مثله في ذلك مثل المفكر سارتر». ترك لنا عملاً لا يزال بارزاً هو الصخب والعنف. الكاتب الكولومبي جورج أمادو «أستاذ غارثيا ماركيز بشهادة الأخير». ترك لنا عملين شهيرين: طفل من حقول الكاكاو، وغابرييلا.. قرفة وقرنفل. الفرنسي أندريه جيد، ترك لنا عملاً سردياً عدَّه الأبرز هو قوت الأرض. الفرنسي الحداثي ألان روب غرييه، الذي عُرف مجدداً في فن الرواية وناقداً أدبياً كبيراً، ترك لنا عمله البارز: المتلصص. الكاتب البريطاني الضخم تشارلز ديكنز، ترك أربعة أعمال، لكنه اعتز بالأبرز: قصة مدينتين. الكاتب العربي نجيب محفوظ ترك الكثير، لكنه عرف ببعض من كثيره. نتذكر أولاد حارتنا، الثلاثية، الحرافيش، رغم أهمية تلك الواقعية الساحرة في اللص والكلاب، وما بين القصرين، السمان والخريف، قصر الشوق.. إلى آخر القائمة التي تحولت في جلها إلى أفلام سينمائية..
مقطع القول: «فيما الاستمرار في الكتابة حلم كل كاتب، فإن النوعية غالباً ما تكون المطمح»..
***
توجَّب الذهاب الآن إلى مقتطف رأيته في الحقيقة أنه أشبه ما يكون، ضعفاً، برفيف «فراشة» ويغني عن كلام كثير: «.. لا أدري لماذا اخترت الذهاب تحديداً إلى هذين المكانين، في هذا الوقت تحديداً، وكأني محارب يودع ساحات طفولته للمرة الأخيرة، قبل ذهابه نحو الموت، فقد كنت في عمق الموت، ولهذا كان خوفي محدوداً أو يكاد لا يذكر، لكن رغبتي في رؤية الأشياء قبل اندثارها كان كبيراً ومعذباً. ربما قد يكون ذلك جنون من جنونياتي، ولكني في أعماقي، كنت أشعر دائماً بالفداحة. أتصور أنه بعد سنة أو عشر سنوات، لن يبقى شيء من ذلك، ولن يكتب لي أن أراها ثانية. ستتحول إلى سلسلة من الذكريات والصورة المختومة على البطاقات البريدية».. فقرة مقتبسة حرفياً من الرواية المذكورة.
بعض الصور المستعارة والتشبيهات والدراما المضمرة في النص أصبحت «فاقدة الدسم»
الاتحاد

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *