اللوحة اللحنية


فوزي كريم

اللوحة اللحنية، أو الموسيقى البصرية، تعبيران شائعان في أدبيات تاريخ الفن، ففي الثقافة المعاصرة صارت مشاهدة الإنسان للصور، ثابتة أو متحركة، عادة ما تكون مصحوبة بالموسيقى، أمام شاشة السينما، أو التلفزيون، أو الفيديو، أو الإعلان الدعائي.

حتى في المرحلة المبكرة للسينما الصامتة كان عازف الپيانو أو الأورگن يجاور الشاشة ثم يرتجل ألحاناً ملائمة لمَشاهد الفيلم، وكذلك الأمر مع العروض الفنية، إذ تبدو دون عزف موسيقي على جهاز مستور ناقصة، والأمر المعكوس ملحّ أيضاً، فقد اشتهر فيلم “فَنتازيا” الذي أخرجته مؤسسة “والت دزني” بهذا الاستيحاء البصري لأعمال موسيقية شهيرة، وحفلات موسيقى الروك الصاخبة هذه الأيام لا تستقيم دون تأثيرات بصرية أيضاً.
المقاربةُ والمقارنةُ بين الفنين قديمةٌ قدم الفلسفة اليونانية، إذ كان أرسطو يرى في السماع استثارة ذات طبيعة حسية، في حين تقتصر استثارة المشاعر على الرؤية البصرية، وفي مرحلة أوغسطين والإكويني بعده واصل اللاهوت المسيحي الربط الأخلاقي بالفنون. وبفعل الحاجة للتأليب الديني وضعت الموسيقى، بفعل قدرتها على التسامي الروحي، في مرتبة أسمى من الفن البصري.
هذه العلاقة بين الموسيقى والتشكيل سرعان ما خمدت بعد عصر النهضة، ودخل الأدب وسيطاً بينهما، وصار النص الأدبي أكثر أهمية من كليهما، تستعين به اللوحة كعنصر حكائي ومحتوى فكري، وكذلك الموسيقى. ولكن الأمر استعاد توازنه في القرن الثامن عشر، إذ استغنت الموسيقى عن أي وساطة أدبية، كما استغنت اللوحة والمنحوتة، ويعود الفضل في استعادة هذا التوازن، وعودة العلاقة بين الموسيقى والفن التشكيلي إلى واحد من أبطال عصر التنوير العظام، هو إسحاق نيوتن.
في كتابه Opticks) 1704) بيّن نيوتن أن ثمة علاقة علمية بين الصورة المرئية، ممثلة بحركة أشعة الضوء، والتي تُدرك كلون، وبين الصوت، ممثلاً بذبذبات الجسم المصوت، مثل الوتر في الآلة الموسيقية. من الممكن أن تُقرن نغمة موسيقية بلون بعينه، وقرابتهما من بعض- نظرياً لا تطبيقياً- إنما تؤكَّد عبر الترددات والنسب، لذلك اعتبر نيوتن ألوان الطيف السبعة تقابل الفواصل السبع التي تفصل بين نغمتين في السلم الموسيقي، والألوان التي تبدو متناغمة عندما تكون سوية ذات صلة بالنسب المضبوطة لفواصل السلم الموسيقي المنسجمة مع بعض. هذا الانتباه كان واسع التأثير في العالم الموسيقي والفني في القرن الثامن عشر، حتى اليوم، ولكن الإنجاز التطبيقي لهذه العلاقة المتبادلة بين الموسيقى والرسم بدأت مع مطلع القرن العشرين.
هذه العلاقة عرضتُها بتوسع في كتابي “الموسيقى والرسم”، (دار نون 2015)، وأوردتها هنا خلفية لحديثي عن المعرض الجديد في “المتحف الوطني”: Soundscapes العصية على الترجمة، موضحةً بالعنوان الجانبي للمعرض: “اسمع اللوحة، وأبصر الصوت”. ما رأيته لم يكن معرضاً موسعاً لموضوع على هذا القدر من الأهمية، بل التفافاً على الموضوع لتوفير فاعلية قد تكون نافعة مادياً، فالمعرض لا غنى فيه، اقتصر على دعوة ستة ذوي اختصاص وفاعلية في حقل الصوت، والموسيقى الكلاسيكية والموسيقى الإلكترونية، ليختار كل واحد منهم عملاً تشيكيلياً من “المتحف الوطني”، ثم يستوحيه موسيقياً. أنت تدخل ست غرف، يصل بينها ممر بالغ العتمة، وفي كل غرفة يملأ سمعك صوت موسيقي، كما يملأ بصرك عمل فني مستسلم لإضاءة شاحبة، تقف وتتأمل تحت تأثير هاتين الفاعليتين، ولكنك تشعر، رغم جمال ما تسمع، أن الأعمال الفنية المُنتخبة تتمتع بغنى فني لا يُحوجها إلى عامل مساعد، مثل عمل أنتونيللو “القديس جيروم في معتزل درسه”، أو “السفراء” لهولبين، أو “المستحمات” لسيزان، ولكن صحبة الموسيقى للعمل الفني المُستوحى تظل فكرة رائعة، لو أن “المتحف الوطني” وسع من أفق هذا العرض إلى أعمال أكثر، وإلى هامش تعليمي وتطبيقي لطبيعة هذه العلاقة بين الموسيقى والرسم.
الجريدة الكويتية

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *