الخلفيّة الموسيقيّة لحديقة الروح



* حمد الدريهم



( ثقافات )
نهارا ، عند أحد جسور المكسيك ، تنزل الطفلة الشقراء من سيارة العصابة الخاطفين ؛ لتعبر راكضة إلى الطرف الآخر من الجسر لتعانق اليدين اللتين احتضنتهما منذ المهد إلى السنّ الذي اختطفت فيه , تصرخ – والدموع تنهمر من عينيها – :
أمي …أمي …أمي …
انحبس الكلام في فم الأم ولا كلام إلاّ نظرات عينيها لطفلتها الصغيرة و دموعها ، كان حوار الدموع والنظرات المتبادلة من القلبين والعناق البريء أصدق من أية لغة في ذلك المشهد الختامي من فيلم “man on fire “الذي كنت أشاهده وحيدا، شدّني المشهد و خلفيته الموسيقية التي تسللت إلى أعماق روحي ؛ لذا قررت إعادة مشاهدة الفيلم لسببين هما:

١- جمال الفيلم الذي يحكي ويعالج القضية المأساوية في المكسيك و هي : خطف الأطفال ..
٢- المشهد الأخير وجمال الخلفية الموسيقية التصويرية فيه ..
في المشاهدة الثانية للفيلم كانت الخلفية الموسيقية للمشهد الأخير أكثر الأشياء التي علقت في ذاكرة روحي ، وبقيت إلى الآن كخيط صغير جمالي معلق في تلك الذاكرة ..
في عام ٢٠٠٥م كنت يافعاً أثناء تلك المشاهدة ؛ لكن إحساسي بتلك الموسيقى علق في ذاكرة روحي وعندما أدلف إلى موقع يوتيوب أصابعي تستجيب لذاكرة روحي وتكتب : the end – man on fire ؛ لأستمتع بموسيقاه التي أصبحت ملازمة لي ، أذني تتذوقها بلذة واستمتاع -حال فراغي- ولا أعرف من قام بتأليف تلك الموسيقى التصويرية الجميلة الرائعة للمشهد الأخير.
مع مرور الأعوام نسيت الموسيقى التصويرية لذلك المشهد الأخير وشعرت بأن ذلك الخيط الجماليّ ذاب تماما في عقلي الباطن ..
في عام 2011 شاهدت فيلم آلام المسيح لمخرجه : ميل جيبسون ، فإذا بإحدى الخلفيات الموسيقية التصويرية لأحد المشاهد تشدني و تجذبني وتتسلل لأعماق روحي وحصل معي تماما كما حصل في عام 2005 وشعرت حينها بأن خيطا ثانيا جماليا علق في ذاكرة روحي وعقلي الباطن … 
تجوّل المخرج الأمريكي “رون فريك” -لمدة خمس سنوات – بكاميرته السينمائيّة الساحرة أرجاء العالم بتناقضاته الفاخرة المحيّرة وأحلامه الجمالية الواسعة وآلامه ومآسيه القاهرة ؛ ليجمعها في فيلم وثائقيّ بصريّ مدهش -لا يتجاوز الساعتين : “Samsara” أصل العنوان مأخوذ من اللغة السنسكريتية وتعني : دورة الحياة ، -و آمل أن يسعفني الوقت لأخصص حلقات مقالية عن ذلك الفيلم المدهش الذي كانت خلفيته الموسيقية أكثر دهشة ؛لذا (قوقلتُ) الفيلم بحثا عن معلومات أكثر ، إبهامي لمَس -عن غير قصد- إحدى الخيارات المعروضة في صفحة البحث بجانب كلمة ” Samsara” ؛ لتتغيّر الصفحة بأكملها إلى صور امرأة إحداها تضع يدها اليسرى على خدّها الأيسر اسمها : ليزا جيرارد ؛ ليعبق من الصفحة شذى موسيقيّ ليس غريبا عني ؛ أمعنت بالقراءة عنها فإذا هي من ألّف الموسيقى التصويرية لمشهد احتضان الطفلة لأمها عام 2005 و الخلفية الموسيقية لأحد مشاهد فيلم آلام المسيح وأخيرا الخلفية الموسيقية للفيلم الوثائقي : “Samsara ” ، لم أكن أعلم بأن من زرع تلك الخيوط الثلاثية الجمالية الموسيقية الفاتنة في عقلي الباطن على فترات متباعدة مؤلفة موسيقيّة أسترالية واحدة اسمها : ليزا جيرارد، فرحتُ كثيرا و رحت أفتّشُ عن ألبوماتها فكان ألبوم : “شجرة الفضة” أول ألبوم كامل يزرع في حديقة روحي لتصبح الخلفية الموسيقية لتلك الحديقة التي زُرع فيها أيضا –من قبل- أشجار الأسئلة الكثيرة والمعقدة جدا ؛ لذا تعانقت الخلفية الموسيقية مع حديقة الروح التي يسقط عليها مطر الشعور بالاغتراب في أوقات كثيرة .
تميّزها بموسيقاها الضبابية الحالمة التأملية منحها جوائز عديدة منها : جائزة (جولدن جلوب) عام ٢٠٠٠م بالاشتراك مع الموسيقي الألماني : هانز زيمر عن فيلم المصارع لمخرجه ريدلي سكوت . 
باخ ، شوبان ، بيتهوفن ، موزارت ، فيفالدي وغيرهم من عمالقة الموسيقى الذين شنفوا روح الأرض بموسيقاهم العظيمة الخالدة ، كانوا الخلفية الموسيقية للقراءة وفي بعض الأحيان للكتابة؛ لكن مذ أن عرفت ليزا جيرارد أزاحت تلك الأسماء العملاقة العظيمة وأصبحت ملازمة لي في التأمل و القراءة وأيضا كخلفية موسيقية أثناء كتابة هذا المقال ؛ لأنها الخلفية الموسيقية الحالية لحديقة روحي ..! 
_____________
* صحيفة الجزيرة السعودية 

شاهد أيضاً

العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية

(ثقافات) “طربوش أبو عزمي العلي”:   العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية زياد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *