من أنت؟ سؤال الآن والغد


*د. محمد ياسين صبيح

خاص- ( ثقافات )

إن بكيت أم حزنت أو فرحت، فالنهر لن يتوقف عن الجريان، وصخرة الجبل الكبيرة ستبقى موئلاً لطيور الكناري.. إن مت أو لم تمت، سيبقى الوادي يتسلى مع وشوشات النسيم، وستبقى أشجاره تغني كل يوم أناشيد الخصب والشمس والبرد والريح..
أن قَتلت أو قٌتلت، فلن تغير شيئاً من روعة الغروب أو شهقة الشروق، بل سيأتي من يفرغ بقاياه على تربتك، ومن يزرع وروده على رصيف خاوي.. أن تكون قشة في نهر يلوي عنقها الماء، ويرميها إلى أكوام من القش تنتظر شعلة نار لتصبح رمادا مقدساً، في نذر ما.. أو تكون شجرة سنديان على تخوم الماء، تتنفس بالشمس صباحاً، وترد تحية الظهيرة تحت الظلال الوارفة، فلن يختفي القمر عن لياليه الحالمة..
الموت واحد.. بالسيف أو بالرصاص، أو بالقهر أو بالفشل، لكن مكانك إما سيبقى فارغاً سوى من بعض رماد.. أو تملأه بكلمات تزرعها خلية فرح في عشب الحياة.. فإن كان صوتك مختلف لا يهم.. فهو كالزهرة في بستان ملئ بكل أنواع الزهور.. صوتك يشكل آلة من مجموع آلات موسيقية تعطي للعالم نغمته.. فان كنت آلة أو صوت بالأحرى، أو لا تكون سوى قطعة صمت أبله، فلن يسمع احد صدى صوتك، بل ستملأ كمشة تراب فمك.
نعم يا صديقي.. قلمك سيكون همسة في هذا العالم، أو هسيس كما يقول رولان بارت ( فالهسهسة هي الصخب نفسه للمتعة المتعددة..) فالهسهسة هي أن يكون لك حروف.. وصوت وروح.. وليس ظل يستجير باستمرار من قسوة الصمت والصيف القائظ والثلوج الباردة.. فالثلج متعة الشتاء، عندما نستمتع ببياضه ورونقه، لا أن نهرب إلى ظل نار في عمق كهف مظلم..
إن مت منتحراً، أو على فراش الكسل.. لن يعني ذلك أن الغروب سيهرب إلى الشمال، بل سيبقى الغروب في أفق البحر البعيد.. وأنت لن تذهب إلى المقابر الخالدة في الغرب كما عظماء الفراعنة.. بل ستبقى يشتهيك الدود في كومة تراب في زاوية البلدة الأشد قسوة.. وحيدا وعار إلا من كمشة تراب..
فهناك في نفق ما على حافة ما، عند سياط القهر، أو تخوم الزمن وأفق السفر يوجد حلم ما.. قد تلمسه بيدك فتحترق، أو لن تجده فتسقط إلى هاوية الماضي.. حلم لا يبحث عنك في موتك، أو في ليلك الحالك.. هو لا يشعر بالجوع أو بالموت كما أنينك المستمر، لكنك تذهب.. ويبقى هو مطموراً تحت التربة كاالكمأة.. يحتاج إلى عاصفة رعدية.. لتزيل بعض الرمال عن العيون.
أن تموت بلسعة أفعى أو بقذيفة مباركة أو بلعنة عدو أو صديق لا فرق.. سيبقى الحلم حلماً في درج من أزمان الحياة.. لا يجدك ولا تجده.. إلا إذا هززت شجرة ثمارك الناضجة، لتسقط الثمرة الطيبة التي تحب كشفاه فتاة، أو الثمرة المرة التي تشحذ ذائقتك بالدروب وببعض حروف تتعكز عليها لتصل إلى قصتك المنشودة.. وستبقى تغويك شياطين الانفلات إلى عيون الصبايا المحملة بالرغبة والفرح.
عندما نصل إلى سقف السماء، وحتى لا نجهد أنفسنا بالرؤية.. نقول قدرنا السقف الواطي، وبعض غيوم باهتة.. وعندما نصل إلى حافة الزمن، وننتهي إلى صمت القبور، نقول أن الثانية الأخيرة سرقت منا.. وعندما لا نحصد سوى الغيوم البيضاء كالموت، نلتحف سرير الماضي كفراشة لا ترى سوى قشرة الضوء.. لذلك لا فرق في الحب بين العشق الجنوني وجنون العشق، ولا فرق بين الموت مجنوناً، وجنون العظمة في الموت.. فالسماء الصافية جمال للجميع.ز والبستان لا يحتكر الجمال بوردة..
نكوم الدود في عقولنا ونبني أسواراً من البهرجة المغلفة بالمعرفة الناقصة، ثم ننام إلى موائدنا العامرة باللامبالاة وبالانتصار على العقل، أو على الآخر الذي هو مرآة لنا، يوم نرتكب الحقائق أو الخطيئة، يرينا ذاتنا.. ثم عندما تقع الكارثة، نشتم كل المواسم وكل السيول التي جرفت بيوتنا الواهية، كالخيط الذي يفصل الهاوية عن اليابسة، ونشتم الآخر على كسره المرآة، التي لم نكن نعلم بوجودها حتى.
نحن نبالغ في الحرص على عدم الخطأ، من منظورنا الخاطئ، لذلك لا نبارح الخطيئة الأحادية التي تغلف دروبنا، بهالة من الحفر. فليست الخطيئة أن نخطئ، بل أن لا نحاول حتى الخطأ، وأن نتعلم من الخطأ…
_________
*كاتب وناقد من سوريا

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *