من يتذكّر عبد المحسن صالح؟


*معن البياري

ليست ذكرى وفاة أستاذ علم الكائنات الدقيقة في كلية الهندسة في جامعة الإسكندرية، الراحل قبل ثلاثين عاماً، الدكتور عبد المحسن صالح، مناسبة كتابة السطور التالية عنه، فلستُ من الشغوفين بالنحيب على المتوفين ورثائهم في هذه المواسم السنوية، بل هي أن ولعاً عتيقاً بالرجل ومقالاته وكتبه أقام طويلاً فيَّ، استنفرتْه جوانحي لمّا وقعت عيناي، وهما تجولان، كيفما اتفق، في مكتبتي، على كتاب (التنبؤ العلمي ومستقبل الإنسان)، والذي كان ذا وقعٍ خطير في مداركي، حين طالعتُه حال صدوره في ديسمبر/كانون أول 1981. وأشير إلى الشهر، هنا، لأن الكتاب صدر فيه عن سلسلة عالم المعرفة، الدورية الكويتية. وأظنني، مثل ملايين من القراء العرب، ممن دأبوا، في يفاعتهم خصوصاً، على ملاحقة مجلة (العربي) شهرياً، وكان عبد المحسن صالح أحد كتّابها، وكذا مجلة (الوعي الإسلامي) الكويتية أيضاً، وفتَنهم هذا العالم بحذاقته في بسط معرفةٍ علميةٍ حديثةٍ ومثيرة، بلغةٍ مبسطة، وكانت مقالاتٍ تخوضُ في علوم الخلايا والحياة والنبات والحيوان، وفيها أناقةٌ في العرض والتحليل، من دون تأنّقٍ متكلف، ولا إطناب ولا ثرثرة، وأظن أن صالح كان من أبرز العرب الذين أتقنوا هذه الكتابة، ولعلّ الشحّ البالغ في هؤلاء العلماء الكتّاب بين ظهرانينا من أسباب بؤس الثقافة العلمية، لدينا نحن العرب، ومن مختلف أجيالنا، لا سيما مع ذيوع الخرافات والاستسهال في أخذ المعرفة من غير أهلها. 

توفي عبد المحسن صالح عن 57 عاماً، وإلى مقالاته الغزيرة، له عدة كتب، تعددت طبعاتها، ومن الأسف أن (غوغل) لا يوفر صورة له، وإنْ يكتظ بصور كثيرين يحملون الاسم نفسه (!)، وفي موجز (ويكيبيديا) عنه، يرد أنه توفي “وهو بين كتبه وأبحاثه” في غرة رمضان في 1985.

وإذا كان التقدم في العلوم والمعارف التي اختص بها الأستاذ الجليل كبيراً منذ رحيله، رحمه الله، فذلك لا يعني نقصاناً في القيمة الثمينة لمؤلفاته ومقالاته، والتي ظلت تقصد جمهورها من غير أهل الاختصاص، بل عامة الطلبة والمتعلمين والمثقفين، فالبساطة غير المخلّة بالعمق المعرفي السمة الأكثر حضوراً في كل منجز عبد المحسن صالح، والذي غادرتُ متابعته منذ مضت المقادير إلى هوى آخر، غير أن استعادةً في كتابيه، ذلك المشار إليه في تقدمة هذه الكلمات، والسابق عليه (الإنسان الحائر بين العلم والخرافة)، والذي أصدرته (عالم المعرفة)، أيضاً، في مارس/آذار 1979، تذهب بك إلى الحقيقة الأهم، وهي حاجتنا، نحن العرب، إلى العلم قيمةً أولى في الحياة وتصريف شؤونها وتدبير مسالكها، العلم منهجاً ورؤيةً وخياراً. ومن نفائس ما كتب صالح، في كتابه هذا أن “العلم إذا دخل من الباب، قفزت الخرافات هاربةً من النوافذ”. 

طموح العلماء الذي بلا حدود ولا سقوف، في اتساع مخيلاتهم الشاسعة، هو المرتكز الأهم في كتاب (التنبؤ العلمي ومستقبل الإنسان)، وفيه أن ما حققه العلماء في الأربعين عاما الماضية (من صدور الكتاب في 1981 طبعا)، يفوق كل ما حققته البشرية في تاريخها الطويل، وأن المستقبل سيحمل مفاجآت ضخمة، قد لا تستوعبها عقولنا الحالمة. وواحدةٌ من هذه المفاجآت المحتملة، والتي يطمح إليها العلماء، تطوير آلية التكاثر بالخلايا الجسدية، لا الجنسية، ليس فقط للضفادع التي نجحت تجارب أولية (في حينه!) عليها، بل على الإنسان أيضاً، بمعنى أن ثمّة إمكانية لإنتاج نسخٍ بشرية مكرّرة من الإنسان ذاته.

الكلام علمي تماماً، وتفاصيله كثيرة (غير معقدة بالمناسبة) متصلة بحقائق العلم الذي يصدر عنها أي تنبؤ مؤسسٍ على التجريب. لم أعد معنياً بالمدى الذي وصلت إليه طموحات أولئك العلماء في مختبراتهم وتجاريبهم، لكن ذلك الفتى الذي كنتُه لمّا بهرتني الفكرة قبل نيّفٍ وثلاثين عاماً، عندما قرأتُ ذلك الكتاب عنها (وعن غيرها) باغتني وجالسني دقائق، لحظةَ صادفتُ اسم عبد المحسن صالح قدّامي، ثم غاب. 

______
*العربي الجديد

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *