«طفل» بثينة العيسى تائه في جغرافية الخطر


*مايا الحاج

قد يوحي عنوان رواية الكويتية بثينة العيسى «خرائط التيه» (الدار العربية للعلوم- ناشرون) بأنّه يحاكي التيه العربي في ظلّ أحداثٍ مدوّخة تُذهب العقل وتشوّشه. لكنّ هذا الانطباع سرعان ما يتبدّد أمام معنى أكبر تطرحه العيسى حين تضع القارئ في مواجهة التيه الإنساني داخل عالمٍ مشوّه تغدو الحياة فيه أشبه بمتاهة لا خلاص منها.

تحكي «خرائط التيه» عن ألم والدين يفقدان فجأة طفلهما الصغير أثناء أداء مناسك الحج. «كانت سمية أوشكت على إتمام شوطها الرابع، تطوف مأخوذة بجلال اللحظة، بين مئات الآلاف من الحجّاج. شفتاها تلهجان غارقة في العرق»… (ص 13). يسبح الأبوان بين أمواج بشرية، يذوب صراخهما باسم ولدهما مشاري في نداء الحجاج «لبيك اللهمّ لبيك»، لكنهما يُكملان بحثهما من مضيق إلى آخر أملاً بلقاء ابنهما. وتتكرّر كلمة «مضيق» كأنها لازمة ليس للدلالة على الضيق المكاني فحسب، بل الضيق النفسي الذي تشعر به عائلة مشاري ومن خلفها قارئ الرواية نفسه.
تتوقف بثينة العيسى عند تفاصيل صغيرة تكوّن مشهد «الفقد» الكبير. تنقل إلى القارئ خلجات أمّ تائهة وأب مفكّك بعد ضياع ابنهما في الزحام. تختار لنصّها راوياً خارج الحكاية، يسرد- عبر ضمير الغائب- الحدث واضحاً، شفافاً، كأنّما ينقله عبر كاميرا تلتقط المشاعر بتلاوينها والأشياء بجزئياتها. «فكّر فيصل بأنّ عليه أن يتبع التيار، لا شكّ وأنه جرف ولده. مشاري الهزيل، الصغير، الهش. ما أسهل أن يجرفه نهر بشري. أخذ يعدو بين الجموع، يعدو ويصرخ. سمية أيضاً مثله، صارت تعدو وتصرخ». (ص 15).
فقدان الطفل
تبدأ الرواية من العقدة. تنطلق الأحداث، أو الأصحّ الحدث الرئيس الذي تقوم عليه الرواية، من مشهد فقدان الطفل مشاري ابن السبع سنوات: «مكة المكرمة، 7 ذي الحجة 1431، 12:16 ظهراً… قبل تلك اللحظة، كان كل شيء على ما يرام». وما هذا التحديد الزماني والمكاني إلا دلالة على تأزّم اللحظة/ الموقف. فأن يتوه طفل صغير بجسد هزيل مثل مشاري في الحرم المكي أثناء الطواف، ليس كمثل أن يتوه في حيّ أو زقاق. فمن أين يتبدى جسد مشاري الضئيل وسط احتقان بشري تُشكله آلاف الأجساد المتسربلة بالإحرامات البيضاء والعباءات السود؟ هذه هي إذاً مأساة سمية وفيصل، والدَي مشاري، اللذين ينطلقان معاً، من مكة إلى عسير وجيزان فسيناء، في رحلة بحثٍ تتأرجح بين الأمل والخيبة. ومع تتبّع مسار الوالدين، يلتمس القارئ أنّ رحلة البحث هذه ليست إلّا رحلة تيه جديدة. واللافت أن الجملة الافتتاحية في النصّ «كان كلّ شي على ما يُرام» تتكرّر أيضاً كلازمة على طول النصّ، مما يعطي القصة بُعداً وجودياً عميقاً. فالحياة غالباً ما تكون هادئة إلى أن تأتي لحظة ما تشطرها نصفين، فتصير لنا حياة قبلها، وأخرى بعدها. وهذه الفكرة تتعمّق مع تحديد الكاتبة زمن الأحداث بالثواني.
تتيح بثينة العيسى لقارئها أن يعايش تجربة مختلفة، لا هي حياة ولا موت. تأخذ بيده ليمشي فوق خطّ فاصل بين النجاة والسقوط. وعبر «خرائطها»، تنقلنا العيسى إلى مرحلة ثالثة تهتزّ فيها الثوابت وتتبدّل الرؤى. والدا مشاري يتشاركان المصيبة ذاتها في حين يواجهها كلٌ منهما على طريقته. سمية، الأم، تدخل في حالة من التصوّف أو «الدروشة» الشديدة. تُسلّم أمرها إلى السماء لعلّها تُعيد إليها ابنها. تتحرّك في بحثها عن ابنها المفقود بأمل تُغذّيه بالإيمان والابتهال. أمّا والده، فيُعلن سأمه من كلّ شيء، ويفقد ثقته بكلّ شيء. يمضي في البحث عن ولده مدفوعاً بغريزة الأبوة من دون أن ينعم بيقين المؤمنين. هكذا تختار الكاتبة أن ترصد موقفين إنسانيين متضادين تجاه مأساة واحدة، لا للحكم أو الإدانة، إنما مراعاةً للحقيقة الإنسانية التي تجنح في أوقاتها المصيرية نحو النقيضين. «البعض منا يساعده الله… البعض الآخر عليه أن يساعد نفسه».
حالة الفقد، سواء موتاً أو خسارة، تدفع الإنسان إلى السؤال عن علاقته بنفسه، وبالأشياء من حوله. هو «التيه» الذي يهزّ البنية الداخلية والنفسية والوجودية للكائن البشري، فتدفعه إلى إعادة طرح السؤال عن علاقته بربّه، وبذاته، وبالآخرين. وهذا ما حصل مع سمية وفيصل اللذين دخلا- منذ لحظة ضياع ابنهما- في حالة شجار دائم ولوم متبادل، قبل أن ينفصلا ويغيب كلّ في عالمه الخاص.
مسافة زمنية
اثنان وعشرون يوماً هي زمن الرواية (من 7 ذي الحجة 1431 حنى 29 ذي الحجة 1431). مساحة زمنية ضيقة تبني عليها بثينة العيسى رواية تمتد على أربعمئة صفحة. الزمن يطول لأنه يُقاس بثوانيه. لكنّ الخطاب لا يسير بموازاة الحكاية دائماً، بمعنى أن زمن الحكاية لا يُطابق زمن الأحداث مطابقة تامة، لأنّ الراوي غالباً ما يسترجع أحداثاً ويستقدم أخرى.
أما المكان فيتغير بتغيّر حركة الوالدين المفجوعين. يعيش الأب فيصل وشقيقه سعود وزوجته معنى التيه الجغرافي بين أماكن قد يكون الصبي وصل إليها: أسبوع في عسير، ثلاثة أيام في مكة، ثم في جيزان وفي سيناء. تتحرّك الشرطة السعودية والسلطات الكويتية تحركت من أجل إيجاد الطفل، ليتوصّل المسؤولون، عبر فيديو يظهر فيه الصغير، بأنّ امرأة خطفته، وهي تعمل لمصلحة عصابة تتاجر بالأعضاء البشرية مقرها إسرائيل.
بيدأ إيقاع الأحداث سريع ومشوّق، لكنه يخف تدريجاً، علماً أنّه كان ممكناً اختزال بعض الفصول التي قد لا تُضيف الكثير إلى العمل، خصوصاً في ما يخص الأحداث العامة في مصر واسرائيل، لأنّ الرواية تستمدّ جماليتها في الحفر داخل النفس البشرية (الأم- الأب- الصبي)، أكثر من الغوص في المعلومات التوثيقية العامة.
وتستغلّ صاحبة «كبرتُ ونسيت أن أنسى» هذا الموضوع لتتطرّق إلى مسألة العنصرية. فالعصابة اعتادت أن تخطف أطفالاً من مصر وإثيوبيا ودول افريقية أخرى، لكنّها المرة الأولى التي تخطف طفلاً كويتياً. وهنا تكشف العيسى كيف يُميّز العالم في تعاطيه مع قضية خطيرة كهذه وفق جنسية المخطوف ولونه وبيئته.
تختتم بثينة روايتها بعودة الطفل إلى أهله. لكنّ الحياة بعد الخطف ليست كما كانت قبله. الأبوان انفصلا. الأب تقوقع على نفسه ومرضه، والأم نذرت نفسها إلى السماء. أمّا مشاري الصغير فلم يعد يتكلّم. الخوف والضرب والاغتصابات المتكررة خلّفت فيه آثاراً نفسية وجسدية لا تُمحى. وقد يرى القارئ في وجع هذه العائلة وتيهها وانكساراتها مرآةً لضياعه ووجعه وانكساراته هو. «ليس من حقك أن تعطي طفلك أماناً كاذباً، ولكن تُرى أين المشكلة؟ المشكلة أنّ الأمان كلّه كاذب، الأمان كذبة. حتى لو خبأت طفلك في غرفة بمليون قفل، بحيث لا يستطيع أحد أن يصل إليه وأن يؤذيه، أصغر وأحقر فيروس في هذه الحياة قادر أن يودي بحياته». (ص 258).
«خرائط التيه» رواية صادقة وموجعة، تُشعر القارئ أنّ صاحبتها كتبتها في لحظة وعي بالظلم. وهل أكثر عنفاً وظلماً من واقعنا الإنساني الراهن؟
_________
*الحياة

شاهد أيضاً

أبورياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع لإنارة الطريق

الأديب موسى أبو رياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *