جدلية الدين والسياسة في العثمانية والصفوية ـ القاجارية


يقظان التقي

مجدداً إشكالية الدين والسياسة في تجربتين تاريخيتين العثمانية والصفوية القاجارية إلى الواجهة في طبعة جديدة من كتاب وجيه كوثراني «الفقيه والسلطان».

طبعة رابعة بعد ثلاث طبعات الاولى في عام 1989، والثانية في العام 1990، والطبعة الثالثة العام 2001 والهدف تتبع حقيقة تاريخية تزامنت مع البحث في الخلفيات التاريخية «للولاية العامة للفقيه» وهي النظرية التي دعا إليها الإمام الخميني قبل الثورة الإسلامية، ثم أدخلها بعد الثورة في صحيح دستور الجمهورية الإيرانية كمبدأ تأسيسي ودائم للدولة.
أهمية الدراسة أنها بعد ربع قرن على تأليفها وطبيعة التحولات السياسية والاجتماعية والثقافية التي طرأت وتحول الفقيه من موظف لدى السلطان أو واعظ أو ناصح إلى فقيه السلطان، فتقلص بذلك وجود الفقيه المستقل ودوره، بل كاد ينعدم. لذلك التأسيس على التاريخ أمر مهم لفهم مسالك العلاقة بين الدين والسياسة وحاجة المجتمعات الإسلامية إلى المعاينة من خلال إعادة صوغ هذه المقاربة التفسيرية والتأويلية لأحداث صارت أكثر مباشرة في تأثيرها يمكن فهم أكثر تأثير هذه الضمنية الفقهية ليس فيما يتعلق بالتحولات المادية، بل ما أحدثته من نظرات متحولة إلى الدين والسلطان السياسي وجاءت الأحداث في السنوات الأخيرة لتؤطر هذا الموضوع عنواناً لصراعات كانت موجودة منذ سنوات بعيدة. الأحداث الأخيرة أعادت التركيز على تلك الجدلية وتحفز النظر إليها بطريقة مختلفة عما كان يبدو في السابق هامشياً.
وتركيز الفهم للسياق الذي أخذته هذه الجدلية الفقهية أمر مهم للإجابة على اسئلة أكثر إلحاحاً كما النضال من أجل حماية السياسات وتجاوز الأخطار المادية المحدقة بالإقليم وبما يتعلق بحماية الحريات، ومن دونها لا يمكن قيام سياسات ديموقراطية.
الأمر يتعلق بأفكار ثقافية يطغى عليها الجانب الأيديولوجي وأحياناً ترتكز على قوى اقتصادية وتكنولوجية وهذا وجه آخر يطور الأسئلة خلال ربع قرن حول نظرية فقهية شكلت مساراً سوداوياً وأحدثت مخاطر مهمة في عالم ما زال يعيش زمن الأسئلة الكبرى تحديداً بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر وصلتها بالعالم وصلة العالم بها وتعني بذلك أميركا المجتمع والمؤسسات المدنية والفكرية ومؤسسات الرأي والإدارة وكثيراً من العالم ومعنى الصراع بين القوى التقليدية الأصولية والتي لا يمكن عزل الشرق الأوسط عنها.
واحدة من الأسئلة التي تطرحها الإشكالية مقاربتها من زوايا مختلفة تمثلت بالتحولات الرئيسية بعناوينها الكبيرة: الأصولية والعولمة وأشكال الحرب أو النزاعات الجديدة.
ثم ينبغي السؤال الاجماعي حول ما آلت إليه الأحداث ولا سيما المزج فيها ما بين الإسلام والهويات الوطنية، واستذكار صراعات قديمة في الشرق الأوسط وقسوة الذاكرات التاريخية غير الواعية أو نصف الواعية والتي تتحدد بانقسامات جيوسياسية جديدة.
ولاية الفقيه فتحت الشهية لأصوليات متعددة في أماكن أخرى من العالم وإلى شبكات وأفراد بصرف النظر عن حكومات تمارس العنف على المدنيين لأغراض السلطان ولأغراض سياسية وأيديولوجية.
وبدراسة هذه النظرية الدينية لا بد من العودة إلى دراسة أثرها في سياق نظرة تاريخية في مرحلة ما قبل العثمانية والصفوية وفي نشأة الدولتين وصراعها وتعكس أثرها في دراسة المؤسسة الدينية نفسها، والعلماء من العهدين الصفوي والقاجاري على نحو ما عرضت له فصول الكتاب الأربعة.
هل النظرية (ولاية الفقيه) شيعية محض، هل هي خاصة بإيران والتجربة الشيعية الإيرانية فحسب، كان لا يزال فيه الخطاب التاريخي العربي، كما الخطاب الثقافي السياسي العربي عموماً مشبعاً بالمفردات التي تتحدث عن «الخلافة» العثمانية وعن الخلفاء العثمانيين؟ ثم ما هي علاقة تلك النظرية بالواقع ومعطيات التاريخ الفعلي، أم الأمر أكثر اراتباطاً بالذاكرة التاريخية في استخداماتها المختلفة وظيفة الوصول إلى السلطة ووظيفة الفزّاعة.
ما علاقة هذا كله ببحثية الدعوة الخمينية لإقامة «الولاية العامة للفقيه» بالفضاء الذي شغلته جماعة الاخوان المسلمين وفروعها في الأقطار العربية، وهل هيأ لها هذا المجال لاقتحام الحقل السياسي الإسلامي.
أسئلة كثيرة تثار مجدداً على واقع أحداث مادية دموية وعلى وقع احتدام الصراع في المنطقة وباحتدام الاجتهادات من مثل أن ولاية الفقيه الشيعي هي في حقيقة أمرها «خلافة» بالمعنى السني، خصوصاً بالمعنى والحدود التي رسمها الموردي، «الولايات الدينية والأحكام السلطانية»، والتي أعاد رسمها الإمام الخميني «النائب الإمام» في «الحكومة الإسلامية».
المعطى التاريخي هو من يبين حدود الأثر ومعطى الواقع يقول إن هذه النظرية «الإمامة» أو «الخلافة» هي التي أسالت دماء المسلمين أكثر من أي مسألة أخرى، والمعطى نفسه يشرح كيف أن حكم الفقيه الولي العام يمكن أن ينسحب إلى أطر الأمراء الصغار والمتفقهين بحيث يكبر الأمراء والأدعياء وتكبر معهم إمارات الطاعة والأحكام التكفيرية من دون طائل.
في عهد الانتداب الفرنسي في بلاد الشام، خاطب السيد محسن الأمين المسلمين (سنة وشيعة) (وهو المرجع الكبير الذي لم يدع إلى خلافة أو ولاية عامة): «بقينا نختلف على من هو خليفتنا حتى أضحى المندوب السامي الفرنسي خليفتنا» (يقول وجيه كوثراني في مقدمة طبعته الرابعة)، والحقيقة المأساة التي يشير إليها كوثراني أن تاريخ المسلمين الفعلي، وإذا ما جرى استثناء طوبى الخلافة الراشدة عند أهل السنة وطوبى «الإمامة المعصومة» عند أهل التشيع، لم يشهد إلا «دولاً سلطانية» هنا وهناك اخترع سلاطينها حججاً عبر استضافة فقهاء لكسب شرعية هذا الفقيه أو ذاك.
دراسة التجربتين العثمانية والصفوية تؤكد على هذا التماهي بالتعامل مع المسألة، ولم تكن شاهات إيران إلا سلاطين من أمور كثيرة أهمها:
[ 1 البنية العسكرية للقبيلة المقاتلة.
[ 2 في الخلفية النظرية الفارسية للإدارة والحكم لدى الطرفين العثماني والصفوي.
[ 3 في نمط المأسسة للعلاقة بين السلطان والفقيه، ويتوقف كوثراني عند فقيه إمامي هو محمد حسين النائيني الذي تولى مهمة الدفاع عن صيغة الدستور التي حملها الثوار الأحرار في إيران والدولة العثمانية. والنائيني في أطروحاته يترجم حالة إسلامية إصلاحية شملت العالم الإسلامي متأثراً بالكواكبي في موضوع الاستبداد ويلتقي مع فقيه سني معاصر هو رشيد رضا الباحث في أوضاع المؤسسة الدينية العثمانية وموقف فقهاء الإصلاح منها.
الفقيهان يلتقيان عند مواجهة الاستبداد السلطاني الفردي، ومحاربة التدخل الخارجي والتصدي لسياسة إفقار الأمة ويشددان على مفهوم الشورى (الديموقراطية) أصلاً من أصول العمل الإسلامي الذي ضمن للدولة الإسلامية في بداياتها ازدهاراً لدعوتها، ومنعة لكيانها الإسلامي ومشاركة للأمة في قرار حاكمها كما يتصوران.
أما «الضرورة» التي توجب سلطاناً أو حاكماً وإن كان لا يجوز جمع شروط الإمام العادل والعالم من مذهب أهل السنة، أو شرط العلة المستحيل في زمن الغيبة في مذهب الإمامية، فهي تحتاج إلى تحديد وتقييد كي لا يستغل السلطان وقع «ضرورته» فيتمادى في صوره إلى ما لا نهاية.
أما الدولة التي قامت بعد الحرب العالمية الأولى وعلى أساس نظام إقليمي وتدابير علمانية وإن ما يناط شكل بعناوين الشرعية فقد أهملت المسألة الديموقراطية في بناء مؤسسات الدولة الحديثة لصالح آليات الضبط والقمع وتراجع الحريات العامة دور الفقيه المجتهد كان جزءاً من هذا التجريب ولم يرتق إلى مستوى المؤسسات المدنية التي وصل إليها تطور الفكر الإنساني والعالم. الجهد لا يرتبط بلقب، أو مستشار أو سلطان أو حزب أو إقطاع من الفقيه أو السلطان على مقادير السلطة، بل المسألة هي مهد وتحصيل علمي متواصل وارتباط بالواقع وقضايا الأمة، وإلا استولى الفقيه على مقاليد السلطة وصار هو الفقيه السلطان في التوازن المعقود تاريخياً والذي يجري البحث عليه ولا يزال.
إصدار جريء يحرك نقاشاً فكرياً صعباً، ويحاول أن يجمع ما لا يجمع في زمن الانقسامات الأيديولوجية والسياسية، والدكتور كوثراني حالة فكرية مستقلة من التكفيريين والداعين إلى التجاوز ومن الأصوات العالية والقومية والعروبة الحضارية الديموقراطية الجامعة للسنة والشيعة. ومن الداعين إلى الخروج من الانغلاق والشوفينية الدينية، وهو يحاول أن يطلق حراكاً وسجالاً فكرياً يكون جزءاً من التحولات الجارية على المستويات كافة، وجزءاً من التجريب الفكري في مقاربة إشكالية جدلية وظيفتها الخروج من حالة «الاستبداد» ومعالجتها وتفكيكها وتحليلها ودراسة أثرها في السياق التاريخي في المنطقة التي تشهد صراعات دينية ومذهبية، لا بل صراع قيم وجودية وسياسية وسلطوية محمولة بأدوات قبلية وإماراتية محلية وفي تراجع خطير في العصور السابقة الأموية والعباسية وفي الجاهلية.
والكلمة السر المفتاح عند الدكتور كوثراني لحل هذه الإشكالية تمثل بفلسفة فصل الدين عن الدولة، أي فصل الدولة عن السلطان أو السلطان الفقيه وبكلا الحالتين هو نقد للإسلام السياسي الحديث الذي يبدو مثل سفينة التايتانيك تبحر في أمواج متلاطمة من دون برنامج أو هدف أو وجهة ربان يدير الدفة ويصون الموقع الإقليمي ويحد من أصول الصراعات الحادة وهذا ما يفسر هذه المروحة الواسعة في أعمال العنف والتشظي والانقسامات والأحداث المتصادمة في كل الاتجاهات والتقاطعات والتماهيات بين نظريات أيديولوجية صارت متقاربة بالدعوة إلى الخلافة بما تعنيه من الاستيلاء على السلطة وعلى الرأي العام.
هنا نقتطف من الإصدار من الفصل الرابع بعنوان: الميرزا محمد حسين النائيني:
[ 3 – المبرزا محمد حسين النائيني وكتابه «تنبيه الأمة وتنزيه الملة»
يقدم السيد النائيني (ت 1355هـ/1936م) دفاعاً إسلامياً عن مبدأ الدستور الذي هو في الإسلام مشاركة لأفراد الأمة في القرار والولاية «ومساواتهم كما يقول ـ مع شخص السلطان في جميع نوعيات المملكة من المالية وغير المالية»، كما انه حق للأمة في المحاسبة والمراقبة وتحديد مسؤولية الموظفين.
يستشهد النائيني بموقف الامة حيال الخليفة عمر بن الخطاب، عندما رقي المنبر يستنفر للجهاد، فأجابوه «لا سمعاً ولا طاعة لأنه كان عليه ثوب يمان يستر جميع بدنه مع ان حصة كل واحد من المسلمين من تلك البرود اليمانية لم تكن كافية لستر جميع بدنه». ويتابع انه «ما استطاع (عمر) ان يدفع اعتراضهم الا بعد ان اثبت لهم ان عبد الله (ابنه) هو الذي وهبه حصته من تلك البرود». كما يستشهد بموقف الأمة في جواب الكلمة الامتحانية الصادرة عنه (عن عمر): «لنقومنك بالسيف. وما كان اشد فرحه عند رؤيته هذه الدرجة من استقامة الامة.
أما اعتياد الامة الاستبداد والخضوع، فجاء بعد «استيلاء» معاوية وبني العاص وتبدل هاتيك الاصول والفروع المذكورة باضدادها، وانقلاب السلطنة الاسلامية في مدة ابتلاء سائر الملل الأجنبية بمثل المأسورية والمقهورية المبتلين نحن بها الآن.
يرى النائيني في تحرر الملل الأجنبية من الملكية المطلقة «اتباعاً للمبادئ الطبيعية واحاطة بالقوانين الاسلامية»، بينما «سير طواغيت الامة المسلمة القهقرى ادى الى الحالة الراهنة» ولذا، فانه يبحث عن اصل الحرية المناقضة للعبودية والجور والتحكم، في النص القرآني والسنة النبوية والتنبهات الصادرة عن الأئمة المعصومين.
يرى النائيني ان الاستبداد يقوم على شعبتين من العبودية: «معبودية السلطان (التي) هي عبارة عن انقياد الامة لإرادته التحكمية في باب السياسة والملكية، كذلك يكون الانقياد والخضوع لرؤساء المذاهب والملل بعنوان انه من الديانة معبودية محضة «والاستعباد في القسم الاول مستند الى القهر والغلبة. وفي القسم الثاني مبني على الخدعة والتدليس»، ويرى ان علاج القسم الثاني اصعب وأعسر، وهما على كل حال حالتان متآلفتان متكاملتان: يقول «لولا ما نراه من ائتلاف هاتين الشعبتين الاستبداديتين السياسية والدينية واتفاقهما وتقوم احداهما بالأخرى، لما اصبح استعبادنا نحن الايرانيين اليوم واضحاً مشهوداً.
يشن النائيني في مقالته هذه هجوماً عنيفاً على «علماء السوء» من خلال تلميحه لتفسير الامام الصادق لقوله تعالى» ومنهم أميون لا يعلمون (..) وهو بهذا يستعيد موقف الامام الصادق عندما شبه موقف المقلدين العوالم لعلماء السوء بموقف اليهود من احبارهم.
يرى النائيني ان «مساواة الأمة مع شخص الوالي، اي السلطان هي: مساواة في الحقوق، وهي مساواة في الأحكام، وهي مساواة في التقاص والمجازاة. ولما كانت هذه المطالب التي رفعتها الحركة الدستورية ـ تحرر الأمة من الجائرين من خلال مساواتهم بالحكام، وهم سلاطين وفقهاء، رأت الشعبة الدينية الاستبدادية ان من الواجب بمقتضى وظيفتها المقامية المتكلفة بالاحتفاظ على شجرة الاستبداد الخبيثة ـ باسم حفظ الدين قديما وحديثاً ـ عدم الاصغاء للخطاب الشريف: ولا تلبسوا الحق بالباطل (..) وأخذت تقاوم بكل ما في وسعها هذين الاصلين اللذين هما منبع السعادة ورأس مال الأمة والمرتب عليهما حفظ حقوق الشعب ومسؤولية الولاة»، وما اكتفت ان تطلق عليهما «التحريم»، بل «اجتهدت في ان تبرزهما باشنع الصور وأقبحها لتنفر منها العامة وتصرف أنظار سواد الشعب عن تتبع هذه الطرق الصالحة.
يتصدى النائيني لحجج من يسميهم «بالمتعممين» ويتهمهم بتجهيل الأمة الايرانية واستغفالها «بمقتضيات دينها وضروريات مذهبها»، فيصفهم «بعلماء السوء ولصوص الدين ومضلي ضعفاء المسلمين.
بعد ان يشدد على ضرورة تحديد السلطات والصلاحيات في نظام الاستيلاء والسلطنة في جميع الشرائع والأديان، ينتقل الى التبرير الفقهي للحياة الدستورية من خلال صيغة الشورى التي طبقت في عهد الرسول والخلفاء الراشدين. ويرى هنا امكانية كبرة لاتفاق سني ـ شيعي في شأن هذه الصيغة. فتطلب عصمة الوالي السياسي في طائفة الامامية، يوجب في زمن الغيبة تحديد السلطنة لترك التحكمات والاستئثارات. يقول: «وعلى هذا فتحديد السلطنة الاسلامية بالدرجة الأولى التي هي عبارة عن ترك التحكمات والاستئثارات ـ مع الإغماض عن أهلية المتصدي والسكوت عن لوازم مقامه من العصمة خصوصا على مذهبنا، هو القدر المتفق عليه بين الفريقين، (…) وهو من الضروريات الاسلامية ايضا.
واضح كيف ان هذا التوجه يحرّكه همّ حاضر وهدف مستقبلي. فهو لا ينطلق من أوجه الخلاف والاختلاف في شأن تاريخية الامامة واحقيتها، بل من واقع المسلمين الذي يفترض حلا لمشكلة الاستبداد في السلطنة، وهي المشكلة التي رافقت معظم عهود التاريخ الاسلامي حتى أمست «شجرة خبيثة» لدى السلطنات «السنية» ولدى السلطنات «الشيعية» على السواء.
«وعلى هذا تكون حقيقة تبديل السلطنة الجائرة وتحويلها: عبارة عن قصر الاستيلاء الجوري وتحديده والردع عن ذينك الظلم والغضب الزائدين، وليس هو كما يتوهم عبارة عن رفع فرد من الظلم وجعل فرد آخر اخف واقل منه مكانة».
ان صيغة الشورى كما يفهمها النائيني لا تتناقض مع دور الفقه في مذهب الامامية. فهذا الدور الذي تفرضه «نيابة الامام» والذي يتمثل بالقيام «بالوظائف الحسبية» مع عدم ثبوت النيابة العامة في جميع الوظائف»، يندرج في نظام شوروي حيث «تتحقق الشوروية الملية العمومية، لا مع البطانة وخواص شخص الوالي فقط (..) بل مع «عموم الأمة». يقول: «ودلالة الآية المباركة «وشاورهم في الأمر» المخاطب بها نفس العصمة وعقل الكل، وقد كلف بالمشورة مع عقلاء الامة على هذا المطلب في كمال البداهة والظهور. حيث يعلم بالضرورة ان مرجع ضمير الجميع هو عموم الامة وقاطبة المهاجرين والانصار لا اشخاص خاصة».
ان الهيئة الدستورية المتمثلة بالجمعيات العمومية او البرلمانات او المجالس التمثيلية، هي الصيغة الراهنة التي توصل اليها تطور الحضارة الانسانية وفقا «للمبادىء الطبيعية» و»القوانين الاسلامية» اللتين لا تناقض بينهما في رأيه. بل ان النظام الديموقراطي اصله في الاسلام النظام الشوروي. والنائيني هنا يشدد على المقولة التي رددها العديد من المصلحين والدستوريين الاسلاميين آنذاك. «هذه بضاعتنا ردت الينا».
ان وجود هذه الهيئة في السلطنة ضروري كي لا يتحول الاستيلاء الى جور. انها نوع من قوة ضابطة ورادعة ومسددة كما يقول النائيني. وهذه الهيئة تتوافق مع وجهة النظر السنية القاتلة بشروط علمية الخليفة وعدالته، ومع وجهة نظر الامامية القائلة بعصمة الإمام. إنها الامكان الضروري في هذا الزمان: «في هذا الزمان وقد أصبحنا قاصرين ليس من وجهة عدم امكاننا ان نتمسك بالعصمة العاصمة فقط، بل حتى ومن وجهة انصاف المتصدين للأمور بملكة التقوى والعدالة والعلم الحقيقي، وبالعكس مبتلين بالضد المقابل لها. فكما ان الضرورة قائمة على ان حفظ تلك الدرجة المسلمة من تحديد السلطة الاسلامية التي عرفت انها من الامور التي اتفقت عليها الأمة وأنها من ضروريات الدين الاسلامي، والتحفظ على اساس الشوروية الثابت بنص الكتاب والسنة النبوية والسيرة المقدسة، لا يتصور ولا يتحقق وجودهما(السلطة والشورى) إلا إذا استندنا على قوة خارجية رادعة ومسددة تقوم بدور القوة البشرية مقام القوة العاصمة الإلهية، ولا أقل من أن تحل القوة العلمية وملكة العدالة».
الهيئة الدستورية هي إذاً «قدر مقدور من القوة العاصمة الإلهية بناء على أصول مذهبنا طائفة الإمامية (كما يقول النائيني)، وبناء على مذهب أهل السنة هي في مقام القوة العلمية وملكة التقوى والعدالة».
هذا الحل الدستوري الديموقراطي الذي يدافع عنه السيد النائيني في معركة تخوضها القوة المطالبة بالدستور في إيران والدولة العثمانية آنذاك ضد الاستبداد الفردي السلطاني، وضد تيار واسع من الفقهاء الذين يمثلون على حد قوله «شعبة الاستبداد الديني»، هو «حل إسلامي» ليس فقط للمسألة الداخلية التي كانت تعانيها إيران من جرّاء القمع والدور والاستبداد، وإنما أيضاً لمسألة درء الخطر الأجنبي الذي يتهددها بالتقسيم. فمشاركة الأمة في السياسة تستنفر قواها للجهاد ضد الاعتداءات التي تتربص بها آنذاك من طرف روسيا وبريطانيا. ولذا، فإنه يرى «أن تحويل السلطنة الغاصبة من نحوها الظالم الأول إلى نحوها العادل الثاني علاوة على سائر المذكورات موجب لحفظ بيضة الإسلام وصيانة حوزة المسلمين من استيلاء الكفرة الجائرين».
المستقبل

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *