عودة إلى «1984» لجورج أورويل..الحياة في كنف «الأخ الأكبر»


تهامة الجندي

تزعم رواية «1984» أن العالم تقوده ثلاث دول عظمى: الأولى تدعى «أوراسيا» وتشمل على القسم الشمالي من الكتلة الأوروبية الآسيوية، وهي تدين بـ»البلشفية الجديدة». فيما تُسمى الدولة الثانية بـ»أوقيانيا»، وتسمى الفلسفة التي تحكمها بالاشتراكية الإنكليزية أو «إشتنج». أما الدولة الثالثة فهي «إيستاسيا»، وتضم الصين والجزر اليابانية، وقسم كبير من منشوريا ومنغوليا والتيبت، وهي تخضع لما يُعرف بفلسفة «عبادة الموت»، أو «محو الذات».

ويبدو أنه من المتعذر التمييز بين العقائد الثلاث، وما تنتجه من نظم فوقية وتحتية، فكلها تنطلق من منطق تأبيد انعدام الحرية والمساواة، وتجميد حركة الحياة عند لحظة مختارة. وفي كل منها توجد بنية هرمية تراتبية، تنتهي بعبادة القائد، واقتصاد يقوم على حروب مستمرة منذ ربع قرن، لاقتسام ما بقي من العالم، والاستحواذ على ما فيه من الثروات واليد العاملة الرخيصة. حروب ليس غايتها النصر، بقدر ما هي وسيلة ناجعة لإزهاق الفائض من البشر، وتدمير منتجات العمل «التي من شأنها، أن تُستخدم لجعل الجمهور مرتاحاً أكثر مما يجب، ما يعني جعله ذكياً أكثر مما يجب على المدى البعيد». 
كتب جورج أورويل روايته هذه عام 1939، مفترضاً أن أحداثها تدور أواخر القرن العشرين، في مدينة لندن، عاصمة «أوقيانيا» العظمى، وأن شخوصها الفاعلين، ينتمون إلى شريحة المثقفين الحزبيين، العاملين في مؤسسة رسمية، تدعى «وزارة الحقيقة» وتُعنى بالإعلام والآداب والفنون والتعليم. وبدأت ترسيمات الحكاية المترامية الأطراف، من ونستون سميث، الموظف البسيط بزيه الموحّد «الأوفرول الأزرق»، وقسمات وجهه المتعب، ينهي العقد الرابع من عمره، وينكبّ على تحوير المعلومات والوثائق، لتتماشى مع متطلبات الحزب والحكومة بقيادة الأخ الأكبر. 
ولم يكن سميث وحده من يعمل على تزوير الحقائق، كان يساعده جيش كبير من كوادر الحزب، يتوزعون على وزارة السلم المعنية بالحرب، ووزارة الحب التي ترعى القانون والنظام، ووزارة الوفرة المسؤولة عن الشؤون الاقتصادية. وأسماء الوزارات الأربع في اللغة الجديدة: «وزاحق»، «وزاسلم»، «وزاحب»، و»وزافرة»، وبفضلها أُزيل التاريخ من سجلات الدولة، ولم يبقَ منه إلا ما تحفظه الذاكرة الفردية، وبطل الرواية ما عاد بقادر على الجزم في أبسط الوقائع، كأن يتذكر في أي يوم وُلد، أو في أي عام انطلق الحزب. لكنه يشك في أنه لم يسمع بتعبير «إشتنج» قبل عام ، وبعدها بدأت مرحلة التطهيرات، وأُزيح قادة الثورة الأصليين. 
وبطبيعة الحال، بطل الرواية، هو ضحية المنظومة الشمولية، مع أنه ينتمي لكادر الحزب الواحد، لكنه من أعضائه الهامشيين، المطالبين بالولاء الأعمى، ويُحكى عنه بضمير الغائب، في حياة فقيرة يملأها المخبرون، وفي وزارة عملاقة من الإسمنت الأبيض المتلألئ، كُتبت على جدرانها شعارات الحزب: الحرب هي السلم، الحرية هي العبودية، والجهل هو القوة. وهي كناية عن مبدأ «التفكير المزدوج»: «أن تعرف ولا تعرف، وأن تدرك الحقيقة الكاملة عندما تروي الأكاذيب، وأن تزعم الأخلاق وترفضها، وأن تؤمن بأن الديمقراطية مستحيلة مع إيمانك بأن الحزب يحميها..«.
تلك كانت المقدمات، التي وضعها المؤلف في إطار سيرة ما قبل البداية، وفي توصيف الفضاء العام، الذي سوف تتحرك فيه الشخصيات، وتنطلق منه الحوادث، ولم يقع الكاتب في فخ الأدلجة والتحريض الفج، لما يعتبره منافياً لحقوق البشر وإنسانيتهم، بل صاغ نصاً جميلاً، لا يزال يُعتبر واحداً من أفضل النصوص الأدبية، منطلقاً من حبكة كلاسيكية متماسكة، تنمو وتتشعّب تبعاً لأفعال الشخصيات الروائية ومواقفها، بحيث بدت التفاصيل أقرب إلى الحقيقة، تسير وفق مقوماتها الذاتية. ولم يمضِ وقت طويل، حتى أصبح الخيال واقعاً، وأضحت الرواية أشبه بمنشور سري، يتداوله معارضو النظم الشمولية في النصف الثاني من القرن العشرين. 
سارد الحكاية راوٍ خارجي، وسرده رشيق، يتميز بجاذبية خاصة، تبثها نظرته الثاقبة والساخرة إلى نمط الحياة التي يرصدها. يبدأ من المظاهر الخارجية، وينتهي في الأعماق، مشيّداً فضاء من العلامات، يفضي إلى حالة بعينها، تستدرجه إلى أن يخضعها للتأمل والتفكير، ويلاحظ ما تنضوي عليه من أمداء وتبعات، فحين يقدّم لنا عدو الشعب إيمانويل غولدشتاين، مثلاً، يبدأ من صورته القبيحة، التي تعرضها الشاشات الكبيرة في وزارة الحقيقة على أعضاء الحزب أثناء «أوقات الكراهية»، وتشعرهم بالتقزز والغضب.
الشائعات الغامضة، تلف صورة غولدشتاين، وتدّعي أنه كان شخصية قيادية بمستوى الأخ الأكبر. شارك في مؤامرات ضد الثورة، وحُكِم عليه بالموت، ثم فرّ واختفى. ألّف كتاباً مخيفاً، يُوزع بالسر، وبات يدير شبكةً سريةً من المتآمرين، تُدعى «الأخوية»، وتعمل على الإطاحة بالدولة، ولا يكاد يمضي يومٌ من دون أن تعتقل شرطة الفكر أناساً يعملون لصالحها. 
كانت الاعتقالات تحدث ليلاً من دون تصاريح رسمية، وكان المعتقل يُواجه بقائمة طويلة من جرائم التجسس والتخريب، لابد له من الاعتراف بها، و»كانت الاعترافات أمراً شكلياً، لكن التعذيب كان حقيقياً»، وفي أغلب الأحيان كان يختفي المُدان، ويُحذف اسمه من السجلات الرسمية، وكانت الكلمة المألوفة «يتبخّر».
وقع سميث في المحظور الأول، حين سمح لنفسه، أن يُعجب ضمناً بغولدشتاين، وحين أخذ يستحثّ ذاكرته، وذاكرة العامة من الناس، ليعرف المزيد عن عدو الشعب، وعن مجايليه ممن أُبعدوا عن سدة الحكم، وراح يشعر بأن مديره في العمل أوبراين، يشاطره العداء للنظام في سره، وينتمي إلى «الأخوية»، وبذلك فقد وضع عقله في مرمى النار، لأن الذاكرة والتفكير من ألد أعداء الأضاليل، التي يفبركها الحزب. 
ووقع سميث في المحظور الثاني، حين عشق زميلته في العمل جوليا، بعد أن تمرّدت على النواهي الحزبية، ووضعت في يديه خلسة قصاصة من الورق، كُتب عليها كلمة أحبك. كانت العلاقات الحميمية ممنوعة في عرف الحزب، وكان شرط بناء الأسرة بين أعضائه، ألا تقوم على الحب أو الشهوة. ويلاحظ السارد أن الموقف لم يكن طهرانياً، بقدر ما كان عدائياً إزاء غريزة، قد تخلق عالمها الخاص خارج حدود السيطرة، في حين أن الحرمان الجنسي، يستدعي حالة هستيرية من الهياج، يمكن تحويلها إلى حمى حزبية أو إلى عبادة القائد. وبالرغم من ذلك فقد كان الحزب يشجع كادره على الإنجاب، وكانت مؤسساته التربوية، تعلّم الأطفال كيف يتجسسون على ذويهم، بحيث غدت الأسرة امتداداً لشرطة الفكر.
كان الحب هو العقدة التي دفعت بمسار الحبكة الروائية نحو انعطافتها الانقلابية، ونتائجها الدراماتيكية، وهو الذروة التي أودت بالعاشقين نحو نهايتهما المحتومة. تسارعت الأحداث بعد اللقاء الأول بينهما، واستأجر سميث غرفة فوق متجر الخردوات، الذي يديره صديقه تشارنغتون، طلباً للمزيد من اللقاءات السرية، وعلى فراش المتعة كان يستعيد عافيته وقواه الخائرة، وفي لحظة من الجرأة الطائشة، قرر أن يلتقي بمديره أوبراين، ولم يخيب ظنه المدير، استقبله في منزله الأنيق، الذي تفوح منه روائح الرفاهية ككل رؤساء الحزب، وشجعه على الاعتراف برغبته في الانضمام إلى «الأخوية»، وإنجاز كل ما تطلبه، من القتل وحتى التعاون مع الأعداء الخارجيين. 
لم يمضِ وقت طويل، حتى اعتقلت شرطة الفكر الزانيين من مخبأهما السري، واقتادتهما إلى وزارة الحب لإعادة تأهيلهما، وفي غرفة التحقيق كانت صور سميث وتسجيلاته الصوتية تدينه، وهو لم يتردد في الاعتراف بجرائمه، لكنه تعرض لتعذيب شنيع، غايته إذلاله وعطب ذاكرته ومشاعره، وكان مديره أوبراين، هو من يحقق معه ويعذبه، وهو نفسه غولدشتاين، حينها اكتشف أن «الأخوية» المزعومة هي من فبركة النظام، وفقد كل أمل في النجاة أو التغيير. لكنه خرج من السجن، وعاش وحيداً ومنبوذاً في المجتمع، يقتل وقته بأردأ أنواع الكحول، وحين وجد نفسه يتساءل: لماذا تمرد على النظام؟ وشعر بقلبه ينبض بحب الأخ الكبير، كانت الرصاصة تنطلق من الخلف لتصيب رأسه.
تأليف: جورج أورويل ترجمة: الحارث النبهان الناشر: دار التنوير، بيروت 2014. الكتاب: «1984» رواية في 312 ص قطع متوسط
المستقبل

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *