كاتبات عربيات في عالم شائك ومخيف



*جميل الشبيبي

في دراستنا لمجموعة القصص التي نشرتها جريدة “العرب” لكاتبات عربيات مستجلية عوالم القصة القصيرة التي تكتبها المرأة العربية، نلاحظ اشتراك العديد من هذه القصص في طرح ثيمة تفكك العائلة وضياع أفرادها في المنافي والمهاجر، من خلال وجهة نظر المرأة التي تكون ساردة وشخصية رئيسة في معظم هذه القصص، والتي تجد في العائلة ملاذا آمنا لها يحفظها من تجاوزات الزمن، وسطوة الإرهاب والاعتداء الرجولي ضدها المتمثل بالاغتصاب أو الإغواء بالمال والسقوط في طريق يبعدها عن الحياة الطبيعية والأمان.

التجريب والإشكالات

يلاحظ أيضا أن معظم هذه القصص، لا تحتفي بالتجريب والتقنيات الفنية، بل إنها تتجه نحو عمق إشكالات الحياة العربية المعاصرة، وتعمد إلى إظهارها ونقدها باعتبارها إشكالات أنثوية وبشرية، ينبغي النضال ضد سلبياتها، وبهذا المعنى يجري استبدال واع ومقصود في القصص والروايات النسوية، تجاه عالم الإنسان المهمش والمضطهد، التي كانت من علامات القصص الرجالية الملتزمة إبان خمسينات القرن العشرين وامتداداتها في السنوات التالية لها بما كان يسمى “الواقعية النقدية”، في حين يستغرق التجريب ورسم الأجواء الفنتازية والعبثية في المنجز القصصي الذي يكتبه الرجل.

ومن أهم اتجاهات هذه القصص أيضا، ميلها إلى الاحتفاء بالجسد الأنثوي ووصف تفاصيله بالشكل الذي يضفي عليه سطوعا وتميزا وجمالا يضع الأنثى في صدارة المشهد القصصي، ويعلي وجهة نظرها عن ذاتها عبر تفاصيل هذا الجسد البديع، وهي محاولة لكسر حدة التهميش والإذلال التي تعيشها الأنثى في عالم رجولي يتمسك بتابوهاته وأفكاره المتخلفة عن المرأة، وهي ردة فعل جمالية إزاء القبح الذي تكرسه وجهة النظر الرجولية المتخلفة هذه. وبهذا المعنى نرى تعالق العديد من آفاق هذه القصص بالأحلام المؤجلة باعتبارها حياة بديلة، تفتح أمام الشخصية طريقا أخضر.


البحث عن خلاص

في قصة “في المنزل وجدت كثيرا من الناس” للقاصة رشا عباس، تبدو العلاقات بين شخوصها واهية، في فضاء ليل شتائي تحكمه الفوضى، وتتضح فيه العتمة والإحباط والمصائر المجهولة بشكل جلي، وفي هذا الفضاء المشاكس، تسرد أحداث خارج المألوف: الأخ الأصغر للساردة يلقى على رصيف الشارع وهو نائم، وليبدو لها ذلك “هو التصرف البديهي في مثل هذه المواقف”، وخلال حركة السرد تتضح تلك العلاقات العشوائية في تفاصيل القصة: تحول دائرة الأخ الأصغر إلى غرفة تشبه سجنا مؤقتا، وهو محشور بين عدد كبير من الناس وقد سلبته الشرطة نقوده وأوراقه الثبوتية، وبينما كان قريبا منها، يصبح بعيدا عنــها، مما يضطرها للعودة إلى المنزل.

وحين تخاطب أخاها لتعويضه عن نقوده المسروقة من قبل الشرطة تقول “إنني أستطيع أن أسرق وأقتل لأعطيه نقودا بدل التي أضاعها”. الأمر الذي يرفع رتبة هذه القصة إلى تورية تنفتح على كيان أكبر من المنزل، وتشي بتدهور العلاقات العائلية، ونمو علاقات عشوائية يتحكم بها أغراب، وهي قصة تعيد إلى الذهن توريات القصة العراقية في العهد السابق، حين لم يكن القاص يملك حرية القول في جو الكابوس العام.

وتذكرني قصة “بذاكرة مزيفة أكتب قصة” لسماح الشيخ، بقصيدة “في انتظار البرابرة” لكفافي، حيث يعيش شعب آمن، أملا في تغيير حياته الرتيبة حتى ولو جاءت على أيدي البرابرة، لكنهم لم يأتوا، وفي هذه القصة يفضل شعب أن “نرتحل كالبدو من مكان إلى آخر بحثا عن أناس نتحد معهم” وخلال رحلتهم لا يجدون غير الحيوانات تتحد معهم، وهم في رحلتهم الطويلة، يتعرضون لمؤثرات الفضاء الذي يمرون به، يتضح ذلك من الفيلم الذي يعرض عليهم بعد وصولهم أرض مصر “شاهدنا الفيلم ونحن نرتجف من هول ما نرى، دماء وقتلى وتشريد وجوع وحرب تأتي على الجميع”. لكنهم وفق هذه المشاهد يتغيرون ويستبدلون ذاكرتهم بذاكرة بديلة “حتى صار الكل يفكر في أن يغيّر ذاكرة حياته ويبدل في ماضيه ليشتري حاضرا مختلفا”. وخلال ذلك بدؤوا يأكلون بعضهم بعضا “زاد عددنا فضاقت بنا الأرض وضاقت علينا، فقرر سكان مصر الرحيل عنا وعنها”. والقصة تسرد عذاباتنا اليومية ونحن نأكل بعضنا بعضا.

وفي قصة “عشر دقائق” للقاصة وسام نبيل المدني سرد وحوار مباشر عن ضرورة الحفاظ على الهوية، التي يجسدها المكان، على الرغم من كل التهديدات حتى ولو كانت تصفية جسدية، وهي في ثيمتها تقف متضامنة مع القصص التي كتبتها كاتبات من فلسطين وسوريا والعراق والمملكة العربية السعودية، وهي توجه هجاء مرا للهجرة عن الوطن والإرهاب الذي هو صناعة عربية كما ورد في قصة “المتلازمة الأندلسية” للقاصة السعودية خديجة النمر، التي تسرد رغبة مواطن آسيوي في تطبيق خطة جنكيز خان في غزو العالم بواسطة الحرب الجرثومية، فقد كان جنكيز خان يقذف المدن المحاصرة والعصية على الاستسلام بجثث جنوده المتوفين بالجدري والطاعون لنشر العدوى بين أهلها. يجري هذا الحوار بين الآسيوي الذي يحمل خطة جنكيز خان في حقيبته، وبين طبيب نفساني يحاول أن يشخص مرض هذا الآسيوي.

وأخيرا يكتشف الطبيب “أن هذا المريض اكتسب اضطرابه النفسي بسبب البيئة العربية المحيطة الصادحة بأمجادها الغابرة ليلا ونهارا”، ليقدم “تشخيصه لمرض أطلق عليه اسم المتلازمة الأندلسية ويختصر بـ SLA وهو اضطراب نفسي لا ينتشر فقط في الشرق الأوسط لكنه يكثر فيه، في المناطق والسلالات العربية وإسرائيل”.

وفي قصتي “ثورة” للقاصة هيفاء البيطار و”لعنة الفراعنة” للقاصة كوليت بهنا، وكلاهما من سوريا، نجد استفاضة لصالح الكتابة المباشرة الشارحة، وضمور بنية الحكاية التي تبدو واضحة ومباشرة أيضا، تتحكم فيها التعليقات الخارجية واتضاح وجهة نظر الكاتبة، في تمجيد الحرية وهجاء الاستبداد، فقصة “ثورة” تسرد اكتشاف الذات العاجزة وطموحها في التغيير الجذري من خلال التأثر بعبارة غوركي البليغة “الكذب دين العبيد، والحقيقة هي إله الإنسان الحر” والقصة حوارية مع الذات لبلوغ مرتبة الحرية. أما قصة “لعنة الفراعنة” فهي هجاء مر للاستبداد والشمولية وعنف الحكام من خلال سارد متوار بين أكداس كتبه، التي لا ترى النور، لكنه على يقين من أن الأجيال القادمة ستخترع أجهزة متطورة جدا (…) مستقبلا، ويستفيدون منها ليمنعوا أيّ فرعون جديد أن يمتطيهم”.

تبسط الثيمة سطوتها على تفاصيل هذه القصص، فتخنق التقنية والتجريب، لصالح متلق عام، لا خصوصية فنية له، نستثني من ذلك قصة “أرجوحة مكي”للقاصة العراقية ميسون هادي، حيث اللغة القصصية الشفافة البسيطة التي تتحرى أعماق شخصية عراقية هجرها أبناؤها وزوجته تجاه المنافي البعيدة، وهو يحتمي بعد أن تجاوز 65 عاما، في بيته المتداعي وحديقته المهملة، مستطلعا من مكانه العالي، حركة الناس وتغير سحناتهم وغياب العديد منهم، وقد قلب حروف كلمة “دنيا” إلى “ايند” التي تعني الوصول إلى النهاية.

في قصة “أرجوحة مكي” ذاكرة محتشدة بذكريات الموت والفخاخ الموقوتة، في بلد تتحكم فيه الحروب والقتل والعسف الدائم، لكنه مع كل ذلك، يتصدى لهذا العالم المشاكس بخططه الخاصة التي تجنبه الحذر من النهاية لأنها واقعة لا محالة، “ولهذا تراه يجد سعادة الدنيا كلها في جمع القناني الفارغة، والعصارات التي خلت من دهونها، ثم رميها إلى سلة المهملات. وعندما تمتلئ السلة بالأكياس التي فرغت من رقائق البطاطا، والعلب التي خلص منها الحليب والماء ومعجون الطماطم، سيجد سعادة أكبر في تفريغها ببرميل الزبالة الكبير”.. هكذا هي الدنيا كما يراها مكي، سلة مهملات تفرغ في برميل زبالة.. ومهما كانت عظيمة أو حامية الوطيس، فإنها لا تنحرف قط عن هذه النتيجة الحتمية سواء بعد الجمع والطرح والضرب أو الوصول إلى ناتج القسمة الطويلة. وقصة “أرجوحة مكي” تستلزم وقفة أكبر لا توفرها هذه القراءة التي تحاول الإحاطة بمجموعة كبيرة من القصص في حيز محدود.


الاحتفاء بالجسد

في قصة “غموض” للقاصة حنان بيروتي، نزوع نحو عالم متخيل، تجد الشخصية نفسها وقد تحررت من كابوس الانتهاكات اليومية لذاتها فـ”خصوصياتها منتهكة إن علا صوتها بضحكة أو بصرخة”، وهي تتطلع إلى عالم تكون فيه البيوت “حديثة البناء تحديدا واجهات الحجر والقرميد الذي يظلّل البرندات الأمامية، ويعطي فخامة محببة، والأشجار والورد الذي يزين المدخل”. ومن أمنياتها أن لا تبقى “معلقة بين السماء والأرض، تتمنى أن تلمسَ التراب، أن ترفع رأسها لترى لون السماء لا نوافذ تشبه عيونا مترصدة لامرأة تسترق النظر إلى الأعلى، تتمنى أن يتاح لها أن تزرع شتلة، أن تجلس تحت عريشة دوالي”.

وفي قصة “غياهب الشهوة” للقاصة سارة النمس، نلاحظ احتفاء بالجسد الأنثوي بتأمل شفاف لتفاصيله تصل إلى درجة النرجسية، باستثمار مرآة الحمام للكشف والتأمل والغواية لقد تعرّت من التقاليد والخوفِ وعقدةِ العيب، الانعكاسُ منحها شعورا مختلفا كالتي تصافحُ جسدها بنظرة محبةٍ ومدهوشةٍ، “مثل امرأةٍ عمياء قدّرَ لها أن ترى في جسدها كل ما كانت تتحسسه وتعجزُ عن رؤيتهِ، استوعبت جودةَ مفاتنها، الآن فقط فهمت معاناة العوانس، عصبيتهن، غيرتهن، مزاجهن العكِر، وفهمت أن للأنثى حاجات جسدية مثل الأكل والشرب تماما عليها أن تلبيهـا، نعم.. فالجسـد أيضا يعطش ويجوع”.

ولم تتوقف القاصة عند جمال وبهاء الأنثى وهي تحتفي بجسدها، وتتعرى من التقاليد والخوف، لتكون ردة فعل جمالية ضد التابوهات التي تهمش المرأة، بل إنها أدخلتها في محرمات المجتمع وتابوهاته العديدة، في تجربة خيالية مع الأفلام الإباحية من خلال شبكة الإنترنت، تتأمل فيها العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة، “لم تتوقع أن تكون ممارسةُ الحب مشوقة هكذا ولا عضو الرجلِ بديعًا لذلك الحدّ، شيءٌ لم يخلَق إلاّ ليتصلَ بعضوِ المرأة مثلَ لعبةٍ تتألفُ من قطعتين ولا تعملُ بشكلٍ جيّد إلاّ إن ركّبت ببعضها”، وكل ذلك يضفي شفافية على حركة السرد، لكن القاصة تنهي حلم الفتاة الخيالي بكابوس الخيالات المرعبة حين تجد الأنثى نفسها “بالكابوس” وقد فقدت عفتها، وتكون أمام أهلها عارية منه، وحين تفيق من كابوسها، يكون الجسد قد فقد بريقه، والتعري عن التقاليد والخوف، قد تنحى جانبا ليحل الإقصاء والخوف والحشمة المفروضة محله وبذلك فقدت القصة بريقها وشفافيتها، لتسود أخلاقية الحرام والحلال محلها.

لكن قصة “الرغبة من الباب الخلفي” للقاصة رضوى فرغلي، تتخلص من الإحساس بالذنب والخطيئة التي تتطلبها مراعاة التكتم والسرية في تناول قضايا المرأة الخاصة، لتتوغل في الإنصات إلى أعماق الأنثى وهي تكسر التابوهات التي تحيطها، يتضح ذلك من بداية القصة “تعجبني نظرتها المتمردة وصوتها الثوري المهزوم”.

في هذه القصة يكون الصمت وتجاهل التصريح بما حصل أساس بنيتها، بنية التورية، فالشخصية ليلى 16 عاما، تتجنب الخوض في شؤونها الشخصية وتتعامل مع المشرفة الاجتماعية في المؤسسة الإصلاحية للبنات الجانحات بعفوية بالغة، وكأنها لم ترتكب إثما، وتلخص المشرفة ما نريد إيضاحه عن هذه القصة الجميلة قائلة “تملؤني الدهشة من هذه الفتاة صعبة المراس. ليلى ابنة السادسة عشرة تعلمت الدرس مبكراً، عرفت كيف تحتفظ لنفسها بجواز مرور سحري إلى عالم مشوّه. احترفت الحياة الرمادية من طريق خلفي”.
فطنت أنها حين تدير ظهرها لبعض الرجال وتمنحهم صمتها، يغدقون عليها من المال والذهب ما يكفيها لبدء حياة جديدة، تحتفظ لها بوجه عذري وجسد لن تُكتشف صفقاته السرية. ومن مفارقات هذه القصة إصرار بطلتها على الإخلاص للحبيب الأول مسعد، الذي وعدته أنها ستبقى له “لو قلت لك عمري ما خليت زبون يبوسني في شفايفي، عارفة ليه؟ لأن مُسعد بس اللي كنت بحب إنه يبوسني، مع إنه معملش معايا جنس، بس أنا وعدته إن محدش أبدا يبوسني غيره”. لتكشف مقياسا آخر للحب والعفة أساسه الرغبة والتواصل والعلاقة الحميمة، وليس انتهاك الجسد وبيعه للآخرين دون رغبة، وهذا مفارقة تستحق التأمل في عالم يستباح فيه الإنسان وتفسد فيه ثوابته.
____
*العرب

شاهد أيضاً

أبورياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع لإنارة الطريق

الأديب موسى أبو رياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *