فلسطين في 4 أفلام سينمائية عربية.. البوح وأسئلة الذاكرة


نديم جرجورة

لم تغب السينما العربية عن فلسطين، على الرغم من أن الأفلام ـ التي تتناول قضيتها وحكايات فردية مستلّة من «نكبتها»، ومما يتلو النكبة هذه من تاريخ مليء بحروب ومآس وتضحيات ـ لا يزال عددها قليل، قياساً إلى الكَمّ الهائل من الأفلام «التسجيلية» تحديداً، المموّلة من قِبَل فصائل فلسطينية متفرّقة خلال أعوام عديدة، بعضها مرتبط بمرحلة الحرب الأهلية اللبنانية، وبعضها بمرحلة سابقة عليها بقليل. القصد من تعبير «السينما العربية»، تلك المُنتجة بفضل مصادر تمويل عربية، و/ أو التي يُخرجها سينمائيون عرب.

أساليب سينمائية
من بين هؤلاء 4، لكل واحد منهم أسلوب اشتغال خاصّ به: المصري توفيق صالح (1926 ـ 2013) يُحقّق، في العام 1972، «المخدوعون» (إنتاج «المؤسّسة العامّة للسينما» في دمشق)، مقتبساً إياه عن رواية الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني (1936 ـ 1972) «رجال تحت الشمس» (1963). اللبناني برهان علوية (1941) يُخرج «كفرقاسم» في العام 1974 (إنتاج «المؤسّسة العامة للسينما» في دمشق أيضاً)، عن قصة للسوري عاصم الجندي (1932 ـ 2001) بالعنوان نفسه. المصري يُسري نصرالله (1952) يُنجز «باب الشمس» (إنتاج فرنسي ـ مصري مشترك، 2004)، المقتبس عن رواية للّبناني الياس خوري (1948) بالعنوان نفسه (1998). اللبناني زياد دويري (1963)، يستوحي من رواية «الصدمة» للجزائريّ ياسمينا خضرا (1955) فيلماً بالعنوان نفسه (إنتاج فرنسي ـ بلجيكي ـ لبناني ـ قطري مشترك، 2012)، علماً أن الرواية صادرة باللغة الفرنسية في العام 2005 (مُترجمة إلى العربية بقلم نهلة بيضون، وصادرة عن «دار الفارابي» في العام 2008).
ليست سبعينيات القرن المنصرم شبيهة بمطلع العشرية الثانية من القرن الحالي، سينمائياً وسياسياً وثقافياً. اختلاف المناخ العام بين الفترتين واضح المعالم في شؤون الحياة اليومية، كما في التحوّلات التي شهدتها فلسطين وقضيتها، والسينما وكيفية تعاطيها مع اللحظات الإنسانية. في السبعينيات الفائتة، غليانٌ مفتوحٌ على الاحتمالات كلّها في الصراع بين الفلسطينيين ودولة الاحتلال الإسرائيلي، تُستخدم فيها شتّى أنواع الأسلحة وأدوات المواجهة. والمرحلة الراهنة ناتجة من كَمّ هائل من التبدّلات السياسية والثقافية والاجتماعية، ليست كلّها إيجابية أو منصبّة في مصلحة فلسطين.
أياً يكن، يُمكن اعتبار هذه الأفلام الأربعة بمثابة نماذج مختلفة تعكس أنماطاً متنوّعة من التعاطي العربي مع فلسطين. نماذج سينمائية تفرّدت عن الأعمال الأخرى بقدرتها على استنباط أشكال «تقدّمية» بالنسبة إلى زمنها (خصوصاً الفيلمان الأولان) في مقاربة الحكايات، وسرد الوقائع. فتوفيق صالح منشغلٌ بتلك الرحلة التي يقوم بها 3 شبّان فلسطينيين، والآيلة بهم إلى جحيم الأرض. وبرهان علوية يمزج الوثائقي بالسرد الروائي في استعادته مجزرة دير ياسين (10 نيسان 1948). ويُسري نصرالله يُعيد تركيب التاريخ المرير للهجرات الفلسطينية، من خلال شخصيات تروي حكايات الحبّ والخيبة والهزائم والتشرّد والصدامات والآلام. وزياد دويري يذهب بعيداً في قراءة اللحظة الإنسانية لطبيب فلسطيني يحمل الجنسية الإسرائيلية، التي (اللحظة الإنسانية) تأخذه إلى متاهة الأسئلة المعلّقة، الخاصّة بالهوية والانتماء والأصل والوهم والحقائق ومعنى الصراع. صالح يختار مشقّة الخلاص المفقود، ليرسم صورة عن قسوة الخروج إلى المجهول، وسط صحراء تعكس «جفاف» العلاقة بين الفلسطيني ومحيطه العربي. وعلوية يريد توثيق إحدى أبشع المجازر الصهيونية بحقّ الفلسطينيين المدنيين، جاعلاً من الصورة السينمائية شهادة بصرية حيّة عن واقع أليم. ونصرالله يُتيح للأفراد فرصة البوح الذاتي الحميم وسط الحكاية الجماعية. ودويري يخترق «محظوراً» ثقافياً بتوغّله داخل البيئة الاجتماعية الإسرائيلية بعينيّ طبيب فلسطيني «يتخلّى» عن ماضيه، فيُصبح غائباً عن تاريخه لاختياره نمطاً آخر من الحياة، قبل أن يجد نفسه مجدّداً في بيئته الاجتماعية الأصلية بحثاً عن أسئلة معلّقة.
الأسئلة المعلّقة
توفيق صالح، المكتفي بـ7 أفلام روائية طويلة و7 قصيرة فقط منجزة كلّها بين العامين 1955 و1980، يتميّز، في تناوله فلسطين وقضيتها، بمقاربته أحوال أناس يُشتّتهم الاحتلال، ويرميهم في محيط من القسوة ليعانوا قلق الوجود على خريطة جغرافية حارقة. أي أنه، في سبعينيات مشبعة بالغليان الجماعي، يذهب إلى الأفراد، ويخاطب وجدانهم، ويقول بوحهم الذاتي، ويُصوّر آلامهم، ويقرأ مساراتهم، ويتابع مصائرهم. هذا جزء من حالة لم تتبلور حينها كما هي اليوم، ولم تبلغ صورتها الأوضح إلاّ بعد مرور وقت طويل. بالإضافة إلى ذلك، فإن «المخدوعون» مشغول بسلاسة بصرية معتمدة على ثنائية الأسود والأبيض، تتماهى بالنصّ الإنساني المفتوح على جرح التهجير والأفق المسدود. تماماً كما يفعل برهان علوية في «كفرقاسم»، عندما يضع الروائي في قلب الوثائقي، من دون أن يتخلّى عن البوح الفردي لأناس ذاهبين إلى حتفهم على أيدي مجرمي العصابات الصهيونية. بينما يجد يُسري نصرالله في الرواية مفاتيح جمّة لاختراق جدران الذاكرة المنغلقة على تفاصيلها، والمفتوحة على احتمال القول المفعم بالقسوة والمواجهة، كما بالتاريخ الطويل الممتدّ على مدى العُمر الفلسطيني المرتبك. في حين يضع زياد دويري جهده السينمائي في محاولة الإجابة على سؤال الهوية والانتماء، مستعيناً بلغة سينمائية متماسكة في قراءتها الراهن الإنساني.
لا يزال «المخدوعون» و»كفرقاسم» يحتلاّن مكانة أساسية في المشهد السينمائي العربي، لقدرتهما على تأريخ لحظتين مصيريتين وموقفين إنسانيين مفتوحين على سؤال المصير الفردي للفلسطيني. بينما تتحوّل «باب الشمس» إلى ما يُشبه الملحمة السينمائية المنبثقة من رغبة في جعل النصّ مرآة بيئة و «أزمنة» فلسطينية وعربية متحوّلة. أما زياد دويري، فيُثير ضجّة كبيرة تطال مسألة تصويره «الصدمة» في تل أبيب ونابلس، وتتناول المضمون الدرامي المنفلش على مساحة الأسئلة المصيرية أيضاً. فيلم «الصدمة»، المختلف عن الرواية في جوانب عدّة منها، يجعل الفلسطيني ـ التائه بين هوية يرفضها وجنسية يختارها ـ يعيد صوغ أسئلته، وإن لم يعثر على أجوبة نهائية عليها. وهذا على نقيض «المخدوعون» مثلاً، الملتزم الرواية الأصلية، مقدّماً إياها بشفافية قاسية، وبتصوير حاد، وبمعاينة تفرد مساحات واسعة للبوح الذاتيّ المبطّن. بينما يُشكّل التعاون بين نصرالله وخوري في كتابة السيناريو، إلى جانب السينمائي اللبناني محمد سويد (1959) أيضاً، لحظة سجالية خاصّة بعملية تفكيك الرواية، وإعادة سرد الحكاية وفقاً لمقتضيات السرد السينمائي. في حين يُوازن «كفرقاسم» بين الأرشيف البحت، والسرد الروائي المستلّ من الحكاية الأصلية للمجزرة
السفير

شاهد أيضاً

أبورياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع لإنارة الطريق

الأديب موسى أبو رياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *