“كالماء للشوكولاتة”: فانتازيا بالمقادير اللازمة



مازن معروف

عندما تتمسك ماما إيلينا بتقاليد عائلية تقضي بعدم تزويج ابنتها الصغرى تيتا وإبقائها عزباء لخدمتها ورعايتها، حتى يوم مماتها، فإنها تكون كمن يؤثث للبؤس في أيامه الآتية. أسرة ماما إيلينا مكوَّنة من ثلاث بنات. تقوم هي برعايتهن، أو بالأحرى بالإشراف على سير حيواتهن، وتسييرها بالشكل الذي تراه مناسباً.

ماما إيلينا الشغوفة بالطبخ، تتصرف كما لو أنها تريد صنع عجينة قَدَرِها بيدها. فهي امرأة صارمة، بإمكانها أن تقف ببندقية مخبأة في ثيابها، متحديةً نقيب الثوار، “البلطجي”، فتأمره بالانصراف عن بيتها. بالطريقة نفسها التي تحكم على تيتا بأن تُسجَن في المطبخ، بين النكهات والمقادير، الوصفات الغذائية واستعمالات كل نوع من الأطعمة.
إنها أحداث رواية “كالماء للشوكولاتة” (دار بلومزبري، ترجمة صالح علماني)، والتي كتبتْها المكسيكية لاورا إسكيبيل في اثنتي عشرة حلقة، وعلى مدار اثني عشر شهراً من السنة. كل حلقة تستهل بوصفة طعام، ووصفة الطعام يتحدّد بها الظرف الاجتماعي أو المناسبة، من ولادة أو خطبة أو زواج أو عمادة أو زيارة خاصة، وبالتالي يرتسم بها تطوُّر علاقات أشخاص الرواية بعضهم ببعض، والصراعات بينهم والمسافات التي تنشأ في البيت الواحد.
إسكيبيل وزعت أحداث ثلاثة أجيال متعاقبة في اثني عشر شهراً. زمن الرواية ليس سنةً واحدة بالطبع. غير أن الكاتبة أرادت، أن تكون لروح الأطعمة ومواسم الطبخات سلطة لا على طباع البشر وأمزجتهم ومناخاتهم وأهوائهم ونزواتهم الجنسية وغير الجنسية، وإنما كذلك على الزمن نفسه. كما لو أن الكاتبة تريد أن تنبِّهَنا إلى أن الأسئلة الكبيرة والخيارات الإنسانية تلعب التأثيرات الكميائية للأطعمة دوراً كبيراً فيها، بل وأحياناً تستحوذ عليها بشكل تام.
بهذا المعنى، تشكل وصفات الطبخ، البطانة الداخلية للرواية، والمخطوط الأوليّ للحكايات التي تدور فيها. هذه الوصفات تروي قصص حب. كذلك تروي قصص موت وتمرد وفرار حتى اشتعال المنزل ماما إيلينا بالكامل. فالأطعمة لها شخصياتها، ومزاجها أيضاً. هي نسيج العواطف الخفي. فلا تعود مجرد ضرورة أو حاجة بيولوجية. بعضها مثلاً يغضب حين يتشاجر شخصان بالقرب منه، فيظل نيئاً ممتنعاً عن النضوج ويتحتم علينا الغناء له.
في الرواية يتم تثبيت المكان والبيئة الاجتماعية. الأحداث أيضاً، تتطور ببطء، غير أن تقلباتها تكون حاسمة، ما يبقي الشخصيات منزوية في عواطفها، مشحونة، قابلة للانفجار. لكنها مع ذلك لا تكف عن مفاجأتنا في خياراتها. هذا التشنج، تخفف منه اللغة الروائية التي تمزج بين شروط كتابة الأدب وكتابة إعداد المأكولات.
مقابل ذلك، فإن الكاتبة تصل المطبخ بأبعاد لها علاقة بالمختبر الكميائي والخيمياء فتقدم صورة عن الأسلاف والقبائل وعلاقتهم بعناصر المادة والطب، وبذلك تدخل الرواية وبشكل أنيق في فانتازيات آسرة.
إسكيبيل تسمح للفانتازيا أن تأخذ حيزاً مهماً، آسراً، ومتوازناً، كما لو أنها حريصة على إبقاء الفانتازيا بالمقدار اللازم لإثارة شكوك القارئ لا تفنيدها. فلا تستطيع طفلة، مثلاً، النوم بدون أن تشم رائحة الطبخ، أو أن جنرالاً ثورية تهدّد جندياً بإعدامه بالرصاص إن لم يفهم تحضير وصفة القطر.
كما أن الاختلافات التي تضعها الروائية بين شخصية “تيتا” وأختيها، توسع مساحات هذا التفاعل بين الشخصيات وأحياناً الصدامات، ما يخفف كثيراً من انغلاق بيئة الرواية جغرافياً. أما القارئ لهذه الرواية التي تسيل اللعاب فسيخرج بعد انتهاء العمل شاعراً بأن الروايات لا توجد فقط على أرفف المكتبات، وإنما في براد الطعام كذلك.
العربي الجديد

شاهد أيضاً

سيرة توازي بين القراءة والكتابة بدون تفاصيل الحياة

(ثقافات) سيرة توازي بين القراءة والكتابة بدون تفاصيل الحياة عبد الجبار الرفاعي يكتب عن العلاقة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *