أن تقرأ «رجال في الشمس» الآن


شيرين أبو النجا

لم يغادرنا كرم عطايا غسان كنفاني، كأنه كان يكتب من أجل تلك البصمة التي لا تبهت مع مرور الزمن. تبقى الكتابة تؤشر عليه وتعلن وجوده بقوة، ولا أجد دائماً وسيلة لجذب الطلاب على أرضية مختلفة سوى أن أدفعهم لقراءة بعض ما كتبه الشهيد كنفاني. فكانت دائما رواية «رجال في الشمس» (1963) والتي أكملها فيما بعد برواية «أم سعد» (1969) ثم «عائد إلى حيفا» (1970) الطريقة المثلى للفت نظر طلاب في مقتبل العمر إلى القضية الفلسطينية. لنبدأ بالبديهية الأولى: يُكتب الأدب ليُقرأ، ولكن إذا اقتصر الأمر على النقاد فنحن ندور في حلقة مفرغة استفاض ادوارد سعيد في شرحها وخلص إلى أن انغلاق النقاد على أنفسهم في القراءة يُعمق الهوة الفاصلة بين الأدب (والنقد) وبين المجتمع، بما في ذلك الخطاب السياسي، فننقسم إلى مجموعة تقرأ ومجموعة تحكم. التحدي القائم إذاً أمام أي كتابة أدبية هو تحويلها إلي مادة للنقاش والاختلاف والتفكير، إنه حلم أي كاتب وكاتبة، حلم تحقق لكنفاني ربما بعد مرور فترة كبيرة من الزمن. المهم أنه تحقق. أن يقرأ طلاب الجامعة الأميركية في القاهرة رواية كنفاني في عام 2014 والتي صدرت في 1963 من القرن الماضي لهو شيء ينبغي أن نتوقف عنده، ونشكر عليه كنفاني. ولا بأس أن أقول إن الانبهار دائماً ما يسيطر على إحساسي كلما أتابع النقاش الذي تثيره الرواية، والأفكار التي يصيغها الطلاب. ولكن من هم هؤلاء الطلاب؟

من السهل تخمين خلفية طلاب الجامعة الأميركية، فهم من طبقة ميسورة، تكونت ثروات عائلاتهم في الأغلب في الخليج، ولغتهم العربية لا تسعفهم في التعبير، والأهم أنهم لم يتعرفوا على المجتمع المصري في أقسى صوره. ليس ذنبهم ولا أحملهم الخطأ، لقد وجدوا أنفسهم في هذه الظروف، وكان أن انتقلت الجامعة الأميركية إلى أطراف القاهرة لتساهم في تعميق عزلتهم. يُحسب لهم حقيقة أنهم يسعون دائما إلى المعرفة، فلا يترددون في اقتحام كل ما هو مجهول بالنسبة إليهم. المدهش في المسألة أن القضية الفلسطينية ليست غائبة عن الجامعة الأميركية، فالكثير من الطلاب يحصلون على درجة الماجستير في الأدب الفلسطيني، نادي السينما، المكتبة التي تزخر بكتب حول القضية، الأنشطة المتعددة، قسم التاريخ، قسم الأدب المقارن، لكن تبقى كل هذه المصادر وكأنها نقطة في بحر. فكانت رواية «رجال في الشمس» التي ضمنتها في منهج «الأدب والسينما في العالم العربي» بمثابة صدمة فعلية للطلاب. صدمة أخرجتهم من الشرنقة الرومانسية المريحة التي اعتادوها، فقد كانت أقسى صدمة لهم هي رواية «اللص والكلاب» لنجيب محفوظ.
مع بدء النقاش، وكنت قد طلبت من كل مجموعة أن تركز على شخصية، وجدت الوجوم على الوجوه، وكأي مُدرِّسة «أصيلة» لم يخطر ببالي سوى أنهم لم ينجزوا المطلوب منهم! لكن ما سمعته أربكني أنا شخصياً، فقد توالت عليَّ جُملٌ كلها تبدأ بـ «ماما قالت لي»…أو «بابا قال لي…»، أما تكملة الجملة فهو «الفلسطيني باع أرضه». ما أقسى تصحيح مفاهيم راسخة، ساعدتني الرواية كثيراً في ذلك، لكن النقاش حول الشخصيات جاء أيضاً جديداً تماماً. بداية كان التعاطف كاملاً مع أبو قيس بوصفه رجلاً مسناً، لكنهم حرصوا على إبداء الدهشة تجاه حزنه على شجر الزيتون. أما مروان فقد حمَّلوا أهله المسؤولية الكاملة، ولم يتعاطفوا مع الأم التي تزوجت، وكان أبو الخيزران بالنسبة إليهم هو الخائن ونعتوه بكلمة «نصاب». لكن الطامة الكبرى كانت أسعد. فكانت الأغلبية (29 من 30 طالباً وطالبة) ضد قرار أسعد بالمغادرة. احتل أسعد الجزء الأكبر من النقاش، فكان الرأي السائد هو أن الثوري لا بدّ وأن يبقى، (تأثير الثورة المصرية)، وعليه أن يواجه وإلا كيف يكون ثورياً؟ حاولت التدخل للدفاع عن أسعد، لكن جهودي لم تثمر عن شيء، ولم أحاول مجدداً تواطؤاً مع إعجابي بالفكرة. ووصلنا إلى الحدود: نهاية الرواية ونهاية الرجال. غضبٌ عارم وثورةٌ حقيقية في الفصل! لماذا لم يدقوا باب الخزان؟ قلت إن هذا هو السؤال الذي يطرحه كنفاني على لسان أبو الخيزران، هيهات! والعجيب أنهم بنهاية الرواية وفي نهاية النقاش كادوا أن يتهموا كنفاني أنه يشوه الفلسطيني، (نجحتُ إذاً في محو مسألة الخيانة التي أتوا مدججين بها). بعد نقاش مكثف انتهى الطلاب إلى أن كنفاني كان متشائماً، ولم يكن لديه أمل، وهو ما جعلني أفتح الويكيبديا أمامهم ليقرأوا حياته تفصيلا، فعادت لهم الحيرة مرة أخرى وظل سؤالهم يتردد في جنبات القاعة: لكن لماذا لم يدقوا على الباب؟
لم ينقذ كنفاني سوى عرض فيلم «المخدوعون» لتوفيق صالح، إذ كان الفيلم أيضاً جزءاً من المنهج من أجل المقارنة بين العمل المكتوب وبين شكله على الشاشة. فرح الطلاب كثيراً بنهاية الفيلم، تحديداً بلقطة محاولة الدق على باب الخزان، وعاد النقاش مرة أخرى ليتخذ مساراً مختلفاً. ظهرت أسئلة قديمة جديدة، أسئلة لم نعد نطرحها، أسئلة قد توصف بالسذاجة، لكنها في الفصل تحولت إلى نقاش مُذهل، من قبيل: كيف يقبل العربي الشقيق أن يكون مهرباً؟ حينها لاحت على وجهي ابتسامة تنم عن عدم التصديق أنني أسمع هذا السؤال، لكن الحماس والغضب والاتهامات جعلتني أتراجع وأفسح في المجال لكلام كثير قيل، انتهى إلى أن العالم العربي بأكمله مسؤول عما حدث، أي ضياع فلسطين. لم يكن الوقت يتحمل نقاشاً أكثر من ذلك. فقررت أن أمنحهم فرصة أخرى للتعبير عن آرائهم في الامتحان النهائي. وكان السؤال هو ما إذا كان الاختلاف بين نهاية الرواية ونهاية الفيلم يؤثر على المعنى. استفاض الطلاب في الكتابة، وقررت أن أغض الطرف عن الكثير من الجمل الركيكة، فلا يمكن أن أحصل على كل الأشياء دفعة واحدة. في التقييم للمنهج، كانت إحدى النقاط الإيجابية هي التأكيد أن رواية «رجال في الشمس» كانت نقلة معرفية جديدة لديهم جميعاً، وقد قال أحدهم (التقييم بدون أسماء) أنه قرر قراءة أعمال غسان كنفاني. هكذا غمرتني عطايا غسان كنفاني ومعي ستون طالباً وطالبة لمدة فصل دراسي كامل. مع كل قراءة في سياق جديد يكتسب كنفاني حياة جديدة، وتبقى كتاباته. فالتفجير الذي استشهد فيه قضى على الجسد فقط، أما الكتابات فهي «ما تبقى لكم».
السفير

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *