جئناكم بالذبح


نذير الماجد

المكان الذي تتفشى فيه نوازع الموت مكان جنائزي، والقاتل الذي يوزع الموت نتاج طبيعي لهذا المكان.. المسألة بديهية للغاية: عندما ندمر الحياة فإننا سنحصد الموت، والنتيجة تتبع أخس المقدمات كما يقول المناطقة. شرعة الموت لصيقة بكل تلك الترسانة الهائلة من التشريعات والممارسات المعيقة للحياة والكارهة لها.. عندما نضع ألف عائق أمام رغبة الإنسان في أن ينمو ويكون ما يشاء أن يكونه، وعندما نضع آلاف المحرمات أمام الحب والفلسفة والفن والاختلاف فإننا بذلك نمنح “داعش” أوراق اعتمادها، يكون القاتل ابننا النجيب.. لماذا نتنكر له، هو ضحيتنا، الثمرة القبيحة لمزارع الكراهية ومصانع الموت وممارسات التجهيل وثقافة “اللاثقافة”.

ليس الداعشي سوى كائن منكوب بالعجز الناجم عن الرعاية الرسمية والتاريخية لثقافة كارهة للحياة، كائن اختنق بعجزه فصار ساديا. سادن الموت هذا سادي لا يكف عن الالتذاذ بإلحاق الألم بضحاياه. يقال إن السادية تعويض عن الخواء بشعور مرضي بالقدرة والقوة، تقوم بتحويل العجز إلى قدرة على كل شيء.
هكذا يمكن للداعشي أن يشكل حالة سريرية للمريض بالسادية. لكنه يبدو وهو يوزع الموت أقرب إلى مرض سيكولوجي أشد ضراوة: الافتتان بالموت ومحبته وعشقه. فبينما يلحق السادي الضرر بضحيته يقوم الداعشي بنفيه من الوجود. السادي يهين ويؤذي رمزيا أو ماديا، أما الداعشي فليس بوسعه إلا أن يقتل.
إني أراه مصابا بمرض النكروفيليا: محبة الموتى والجثث والأشياء المتفسخة وكل لون قاتم. “إريك فروم” في كتابه “تشريح التدميرية البشرية” يقول إن عشق المتفسخ ليس نزوعا وإنما مرض، تعلن عنه تلك الشعارات القاتمة المبجلة للموت والدم والتدمير.
النكروفيليا تفهم على أنها ظاهرة نفسية مرضية. “تظهر النكروفيليا كنتيجة للنمو المعرقل.. للشلل النفسي”. تنمو النكروفيليا عندما يعاق نمو نقيضها “حب الحياة”. الشعار الأبرز في تلك الاشتهاءات الجنائزية يحتفي بالموت مثلما يمقت الذكاء، الداعشي يصيح في كل غزواته بأنه كاهن النكروفيليا الأبرز، داعية الانتحار الكبير الذي يصيح دائما: “يسقط الذكاء، تسقط الفلسفة، يسقط الفن.. ويحيا الموت”.
يحدد “اريك فروم” طباع النكروفيلي على أنها الانجذاب العاطفي إلى كل ما هو ميت ومتفسخ ومتعفن وسقيم. وباختصار: إنها شكل كئيب من أشكال الشغف والنضال، الشغف بتحويل الحي إلى شيء غير حي، والنضال من أجل غلبة نوازع الموت على نوازع الحياة، الأيروس على الثاناتوس. لكنها منهج تدميري محض: التدمير من أجل التدمير، الخراب من أجل الخراب.
ينتج عن لاهوت التدمير والشغف بتفكيك كل هو حي ومبهج وإنساني خاصية أخرى هي إدمان العنف.. إن العنف – والعنف فقط – ترياق لكل معضلة، هو الدواء الناجع لهرطقات الحياة وتفاهات الحب ووجود المختلف الديني والفكري والأيديولوجي الذي يشكل في نظر الداعشي تهديدا لنزواته الاستحواذية وإهانة كبيرة لسيكولوجية السيطرة والتسلط لديه.
يقتبس إريك فروم كمثال لهذا الصندوق الأسطوري المعبأ بالعنف جواب الملكة في “أليس في بلاد العجائب: “اقطعوا رؤوسهم” كلازمة مرادفة للأزمة الداعشية: “جئناكم بالذبح”.
في وصية الموت هذه، الوصية المحببة والحل الأمثل والسحري لكل ما هو إشكالي، تأكيد على نفي جذري للزمن بحيث يتأبد الماضي ويتدفق كنبع لا ينضب. بالنسبة للنكروفيلي الداعشي، الماضي وحده هو الذي يعاش كحقيقة، الحاضر مسرح للجثث، أما المستقبل فليس سوى الماضي نفسه وقد استعيد كخلاص فانتازي وفردوس تملأه الحوريات.
وبما أن الموت هو الثيمة المركزية في الخطاب الداعشي إلى جانب التدمير والعنف والرقص على الجثث وتبجيل كل ما هو متفسخ فمن الطبيعي أن يكون اللون المفضل هو لون الكآبة بامتياز: اللون الأسود. هذا اللون يمتص كل الألوان الزاهية، إنه لون قاتم يتماهى ويجسد تماما الروح الكئيبة لداعية الموت وكاهنه الأبرز. روح سوداوية مكتئبة غير قادرة على الحياة والفرح والبهجة، روح عاجزة عن الابتسام. نقيض أبدي للخفة. لاحظوا كيف أن الداعشي لا يبتسم إلا بزاوية ضيقة.. كيف أنه عاجز عن الضحك. ملامح وجهه تكشف طبيعته أكثر من أي شيء آخر. الوجه الداعشي متشنج دائما، ومثلما يمقت الضحك فإنه يجهز على كل ما من شأنه أن يثير بهجة الحياة، والموسيقى أول الضحايا.
لقد أصاب خلف الحربي كاتب حلقة “اقلاع اضطراري” في المسلسل الكوميدي “سلفي” كبد الحقيقة حين أوعز للمحقق بإحالة السائحين المتخاصمين على قضايا تاريخية إلى مستشفى الأمراض العقلية.
على أن الاهتمام بالحدث التاريخي لا يكون مرضا وجنونا تدميريا إلا حين يكون تبريرا ومتكئا لكارثة دموية، حين يكون عكازا يتكئ عليه الداعشي المفتتن بالموت ورائحة الجثث والحياة المتفسخة.
ميدل ايست أونلاين

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *