قراصنة بين السماء والأرض


مي فاروق

ملوّنة بألوان زاهية من ورق ودبّارة, إنها طيارة, فوق الأرصفة نطيّرها, وفوق الأسطح وعلى الشواطئ نطيرها. عندها نشعر بالثقة والاطمئنان, وتشعرنا تلك الطائرة الورقية بالحرية والانطلاق.

هكذا عادت إلي ّذاكرة الطفولة بكل حسرة وألم, بعدما شاهدت برامج المقالب الرمضانيّة والتي أتخذت من فوبيا الطيران مادة برامجية لإثارة الضحك, برامج من القرصنة الجوية تعددت أسماؤها، ولكن مضمونها واحد مركزة على الخطر الواقع بين السماء والأرض.
ولن أخوض في انتقاد هذه البرامج السادية ذات العيار الثقيل, ولن أتدخل في حبكتها وما إن كانت مقالبَ حقيقية أو مفبركة, وسواء أكانت الضحية الضيف أم المشاهد نفسه, فهذا الأمر لا يهم بالقدر الكبير.
غير أن المثير للضحك فيها تكاليفها وميزانيتها والتي وصلت في إحداها – حسب التقارير الصحفية – حوالي 660 ألف جنيه مصري في الحلقة الواحدة بدون أجر الضيف.
ذلك الرقم الذي يجعلنا نشعر أن الأزمة الاقتصادية العربية ليست سوى كاميرا خفية.
وعلى الجانب الاخر وجدتها تحول الطيران الذي كان حلما يراود الإنسان يوما ما إلى كابوس مخيف.
ذلك الحلم الأزلي الذي نجده في نصوص الأاهرام والتي تعود لأكثر من 4500 سنة مضت, كان ملوك مصر يطيرون مع الالهه الخالدة في رحلة أزلية عبر النجوم على متن قوارب سماوية, وهناك نقوش مصرية أخرى تصور شخوصا آدمية أضيفت إليها أجنحة من الريش لتطير مثل الطيور.
وظل العقل البشري يحاول التحليق هروبا من الأرض وعبور المساحة والفراغ الواقع بين السماء والارض وكأنها متعة خالصة للهروب من جفاف الأرض وظل الحلم ترسمه ريشة الفنان / ليوناردو دي فينشي, وبات الحلم حقيقة عندما اخترع الإنسان الطائرة.
وعلى الرغم من هذا الاختراع إلا أن عبارة ابن فرناس “ليت لي جناحين” ظلت تدوي في أعماق الحالمين بنزهه في الغيم الأبيض كما قال محمود درويش: “من سماء الى أخرى, يعبر الحالمون”.
هذه ثقافة الطيران التى عرفناها مرادفة للأحلام والاماني, سماء موازية للسماء الحقيقية شمسا تشرق فينا كل صباح وننتظرها بعد المغيب.
إن ما يحدث اليوم إحلال وإستبدال الحلم بالخوف, الثقة بالاضطراب, حصص برامجية يومية تشيع الاضطراب النفسي والعصبي.
فهل إذا سخرنا من أرواح الناس ومن الموت نفسه وجعلهما مادة للسخرية ألا يروج هذا لفكرة الانتحار واعتبارها لعبة مسلية؟
فهل نسينا جميل البطوطي (مساعد طيار رحلة مصر للطيران – 990 في 31 اكتوبر/تشرين الأول 1999) الذي اعتبرت هيئة السلامة الاميركية عبارة “توكلت علي الله” التى قالها قبل سقوط الطائرة في المحيط الاطلنطي جملة يقولها منتحر علما بأن الطائرة كانت مستهدفة لوجود وفد عسكري مؤلف من 33 شخصا وثلاثة خبراء في الذرة.
ما يحدث يجعلنا نؤصل لفكرة الانتحار واعتبارها أمرا مسليا خاصة في نظر الغرب الذي يعتبروننا إرهابين.
أليست هذه البرامج تدعم بشكل أو بآخر “فريق السحلية” الذي ظهر مؤخرأ ليخترق الصفحة الرئيسية لشركة الخطوط الوطنية الماليزية في يناير/كانون الثاني الماضي حيث ظهرت عبارة: “تنظيم الدولة الاسلامية سيسيطر”؟
وليس من الواضح لماذا أصبحت الخطوط الماليزية هدفا للهجوم الالكتروني خاصة وان ماليزيا في طريقها لتكوين قوة اقتصادية عظمى في العالم.
فهل أصبحنا جميعا قراصنة حتى ولو على سبيل المزاح؟
هذا ما جعلني امتنع عن متابعة تلك البرامج وأدير قرص التلفاز وعند مروري على غرفة ابني سمعت هذا الحوار الصادر من جهاز (play station ) :
قم بإطلاق النار على الطائرات, فلتزأر السماء ولتبدأ المعركة.
وبعد لحظات من إسقاط الطائرتين جاءت على الشاشة عبارة: “مبروك أنت قناص ماهر، وقاتل محترف”.
خرجت من الغرفة بعدما أيقنت أنه لم يعد من حلم الطيران سوى المطبات الهوائية والجبال الصدى، وأن طائرتنا الورقية القديمة ابتعدت ولم يعد الخيط بأيدينا.
ميدل ايست أونلاين

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *