لا تصدقوا.. الشعر


* اسكندر حبش

«خراب أينما حللت». يمكننا الادعاء بالتأكيد، أن جملة الشاعر اليوناني الكبير قسطنطين كفافي هذه، التي كتبها في قصيدته «إيثاكا»، قد خرجت من فضائها الشعري الخاص، لتتحول إلى أكثر من فكرة.. إذ أصبحت مع مرور الزمن، عنوانا لحضور وجودي وسياق حياتي، يجد كثيرون فيه، حقيقة حياتية لا يمكن التخلص منها.

في إحدى القراءات الممكنة للقصيدة، نجد أن الشاعر اليوناني الذي ولد وعاش في الاسكندرية، كان يستعيد في هذه القصيدة – بمعنى من المعاني ـ سيرة جدنا الأكبر عوليس، الذي تاه في البحر، لسنين عديدة، والذي لم ينس فيها وطنه الأصلي، على الرغم من كلّ المصاعب التي تعرض لها، وعلى الرغم من كل المغامرات التي عاشها.
من هنا، كان ذاك الهمّ، الذي أغرقه. ذاك الحنين الذي لم يشف منه إلا في عودته الى ربوع وطنه. هذا الخراب، الذي يمكن ان نسميه اصطلاحاً بالموت، نجد صداه عند شاعر كبير آخر، البرتغالي فرناندو بيسوا، في إحدى شذراته التي يقول فيها: «الحياة هي أن ننتمي إلى آخر. الموت هو أن ننتمي الى آخر. الحياة والموت سيّان. لكن الحياة هي أن ننتمي إلى آخر من الخارج، والموت الى آخر من الداخل. الأمران يتشابهان، لأن الحياة هي الجانب الخارجي للموت».
صحيح أننا نحب الشعر، وأننا نجد فيه حضورنا الوجودي، اذا جاز القول، لكن سؤالا لا بدّ أن يطرح نفسه بدون أدنى شك. هل ينبغي علينا ان نصدق الشعراء دوماً؟ ماذا لو قلنا إن الشعراء يخطئون بدورهم، وإن كلامهم لا يحتمل في كثير من الأحيان كلّ هذه القداسة التي نضفيها عليه؟
بطريقة أخرى، هل فعلاً سنجد الخراب أينما حللنا؟ هل أن الحياة هي الموت؟ لا اعتقد، سوى في أن الاستعارات الشعرية تقودنا في كثير من الأحيان إلى بلاغات لغوية لا نريدها أصلا. بالتأكيد ثمة فرح لا بدّ أنه ينتظرنا في مكان ما، في مكان بعيد عن هذا الخراب الذي تغير معناه المعجمي ليصبح «الوطن العربي». نعم، هذا هو المعنى الحديث اليوم، لهذا العالم العربي، الذي حاولتم إدخاله «عنوة» في نفوسنا. لا شيء فيه سوى الانهيار والخراب. أي لا شيء هنا سوى الموت المتواصل. ما من شيء يقنعنا بعد، في الدفاع عن لحظة الخراب هذه. لا شيء يجبرنا على ان نواصل حفلة الحنين هذه. لا شيء يجبرنا على ان نتحقق من ان الموت والحياة سيان، لأنهما ليسا كذلك، في بقعة ما، منسية من هذا العالم.
لتبقَ إيثاكا حيث هي، اذ لا بدّ من وجود أسماء اخرى أجمل، تقع في الطرف الآخر من هذا البحر. فقط علينا ان نبحر لنكتشف كم من «كاليبسو» مستعدة للقيام بكل شيء من أجل ابتسامة منّا.
لا شيء هنا. أقول لكم. صدقوني. اتركوا بينيلوب لتغزل ألمها لألف سنة اخرى. ثمة أشياء أجمل من كلّ هذا الألم.
____
*السفير

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *