الخــوف


*وفاء خرما

خاص- ( ثقافات )

-1-
مقطع من قصة كتبتها المؤلفة في البدايات (طفلة الأشهر الستة)
حين دخلتُ طمأنتني رؤيتي لرجال عدة يتجمّعون حول موقد الفرن الذي بدا خالياً من حركة العمل ومن حشد الزبائن. اقتربتُ منهم. لاشكَّ بدا عليَّ جزع الهاربة، إذْ أشاروا إليَّ بالدخول متعاطفين. قال أحدهم : لا تخافي أنت الآن في مأمن … أحسنتِ بدخولك إلى هنا.
حلّ ارتياح نسبي في نفسي، خطوتُ باتجاه الداخل وأنا أحتضن طفلتي. لكنْ حين حانت مني التفاتة إلى موقد الفرن، هناك حيث يتجمع الرجال شُدِهت لنيران ترتفع ألسنتها داخل فوهته متأججةً بقوة. تسمّرت عيناي على جثة آدمية لطفل، تُشوى في تلك النار، تدور كما فرخ الدجاج على سيخ حديدي متوهج الحمرة، أمّا تلك الجثة فقد بدت سوداء متفحمة! لم أتحرك، ولم أطلق صرخة … تجمّدتُ رعباً !
-2-
مقطع من قصة أخرى للمؤلفة كُتبت بعد البدايات (طفلة السنوات الستّ)
تابعتُ ببصري ذلك الصف الطويل الذي كان ينبثق من تلك المجموعات المتزاحمة، فإذا بجنود مسلحين يقفون في عرض الزقاق، يشرفون على تنظيم سير الأطفال ضمن ذلك الصف، بينما يقودهم جنود آخرون خارجَهُ ، سألتُ واللهفة تأكلني : ما الآمر ؟ أُجبتُ : تقرّر نقل الأطفال من مدارسهم إلى أماكن أخرى غير معروفة ! احتلّني الخوف وقد تذكّرتُ أن طفلتي واحدة من تلاميذ تلك المدارس وأنهم لابَّد نقلوها إلى مكان مجهول . تركتُ الجنود، ورحتُ أبحث عن باب مدرستها. كان الباب الخشبي العتيق بمساميره العريضة التي تنغرز في كل جزء منه، مغلقاً بإحكام . صرختُ بهلع: طفلتي نُقلت … طفلتي أُخذت إلى حيث لا أعلم، وكنت أحرّك ذراعيَّ صارخة مستنجدة، وأنا أدور وسْط ذلك الزِّحام دوراناً هستيرياً.
-3-
أحد أحلام المؤلفة في إحدى الليالي (اليافعة)
سرتُ أنا وهي في أرجاء القلعة نتعثر بحجارتها المستديرة، نتأمل قناطرها وشرفاتها، نُطلُّ من فتحاتها الطولانية الضيقة، نقطع ممراتها المتفرعة، نصعد أدراجها. وبعد استراحة قصيرة على قواعد نوافذها، اتجهنا نحو بابها خارجتين. انكفأتْ ابنتي فجأة نحو الداخل، قالت إنها نسيت حقيبتها هناك. رأيتها تركض في الدِّهليز الضيق ثم تغيُّبها الدرجات الكثيرة الصاعدة . توجّسْتُ، تلبثتُ دقائق قبل أن أصرُخ منادية عليها. لم تجب. هوى قلبي بين ضلوعي… صرخت، شقَّ صراخي فضاء القلعة، وأنا أركض كالمجنونة في دهاليزها، فلم أسمعْ سوى ارتداد الصدى هادراً مهددّاً .امتدّ صراخي وتعالى إلى أن ملأ فضاء غرفتي، وانداحت تموّجاته فوق رأسي المُتشنّج فزعاً .
-4-
حلم ثانٍ للمؤلفة في واحدة أخرى من الليالي (الشابة)
بيتنا في حي قديم، بشبابيك لها قضبان حديدية مزخرفة، أُطلُّ من خلالها، وأنا في جلستي، على الزُّقاق، والباحة خلفه، وحركة المارّة، وصراخ الأطفال ولعبهم.
أخرج برفقة ابنتي نجوب الأزقة والمنعطفات والساحات الصغيرة، نتشرَّبُ تفاصيل الحجارة والنوافذ والأبوابِ ووقعَ حياة الناسَ بحنين واستمتاع. نغور أكثر في أزقّة أضيق وأبعد وأكثر تفرعاً … نبتعد… ونتلبث قليلاً عند جدار متهدم يبدو وكأنَّ للمكان خلفه طابعاً آخر ونسيجاً مختلفاً، مكان تغزوه سيارات مسرعة، يبدو الماشون فيه بسَحْنات مقطّبة، وحيناً ذوي نظرات وقحة، أو لامبالية. وإذ أتوجّس مخافة أن نجتاز الجدار المتهدم ونغدو في قلب ذلك العالم الغريب، أستدير عائدة. لا أحسُّ خطواتها بجانبي، ألتفتُ فلا أجدها. يتملكني الخوف. أقفز عائدة نحو ذلك الجدار، فأراها هناك ملقاةً خلفه عاريةً مدمّاة … والصرخة، صرختي، غدت في سريري حشرجة تمسك بخناق جسد متيبس .
-5-
المؤلفة الآن والمرأة
قالت لي ابنتي وهي تشتعل حماسة : أغداً تقام أمسية تلقين فيها قصة ؟ سوف أحضرُ بالتأكيد.
رجوتُها ألاَّ تفعل وهي التي تخرج مساءً من عملها منهكة، لكنَّها أصرّت على الحضور وبقوّة.
وها نحن الآن في قلب الأمسية، وأنا أُقرأ قصتي، لكنها ليست هنا. قلبي منقبض، وأنفاسي تتقطّع خوفاً. لقد ودّعتني ليلة أمس متجهةً إلى بيتها الجديد الذي تسكنه منذ أيام فقط، لكنني أعرف أنها كي تصل ذلك البيت – عليها أن تجتاز فرناً قديماً، ومخفراً ، وجداراً متهدّماً لمدرسة قديمة تتخايل خلفه الأشباح، كما داراً أثرية، يُذكّر جوفها المظلم الهائل الاتساع بالقلعة… تلك القلعة … يا إلهــي !.
_________
*قاصّة سوريّة مقيمة في الولايات المتحدة الأمريكية 

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *