التشويق بين ” أبناء السماء ” و ” باب الحيرة “



رحمة عوينة *

خاص ( ثقافات )


     بحثت  عن ” أبناء السماء ” في العديد من مكتبات عمان و في محيط الجامعة لحاجة في نفسي و لم أعثر عليها حتى قُدر لي أن ألتقي بكاتبها الروائي الأردني يحيى القيسي فأهدانيها مع روايته الأولى ” باب الحيرة ” فكانت الروايتان بوابتي لدراسة الإنتاج الأدبي الروائي الأردني الذي عقدت العزم على مواصلة التنقيب عن أبرز مداراته و أجلى محاوره . و على الرغم من أنني ما زلت في بداية الطريق إلا أنني سأعتقد مبدئيا أن روايات يحيى القيسي التي قرأتها له ستختلف في موضوعاتها و رؤاها عن سائر ما سوف أقرأه ؛ ببساطة لأن حجر الأساس فيها كما يبدو لي قائم على فكرة التيه الروحاني و البحث في اللامرئي الذي يستجلب فكرة الذاتي و إن كان لا بد لنا أن لا نخلط بين عالم الروائي المعيش و بين عالمه الورقي لا سيما و نحن نقارب العمل الأدبي مقاربة فنية سواء أكانت شاملة محيطة به أو أنها تتعمد تركيز النظر حول مدخل أو بؤرة من بؤر الرواية و التي تشكل إحدى دعامات وجودها المفارق المشحون بالدهشة أو اللذة .
روايتان خفيفتا المحمل سريعتا القراءة غير أنهما مثقلتان بالأسئلة الحائرة .. حافظ فيهما يحيى القيسي على عنصر التشويق بطريقة جاذبة و محرضة على متابعة القراءة ، فالأولى مثلا ” باب الحيرة ” دفعتني لكتابة التعليق التالي : 

باب الحيرة 

نص ما إن تبدأ بقراءته حتى يدخلك في جو أشبه ما يكون بألف ليلة و ليلة .. و تهيئ نفسك بعد عدة صفحات لاستقبال شيء غير متوقع و غير واقعي .. يتربص بك هناك حيث الإشعاع الخفي للكلمات المختلطة بالذاكرة و بالغرائبي و باللامرئي و بالمكنون خلف صمت الفراغات و بوحها الفاضح .. 
تتوقع حينها أنك حتما على موعد مع ( حزازير ) جدتك المتوفاة قبل عقود من الزمن لكنك بفعل الأمواج السحرية للسرد تجلس القرفصاء أمام خيالك المتأهب للحزازير و تتوقع قدوم الجدة المغبرة خارجة لتوها من مهد الموت لتقص عليك نبوءات ستتحقق لك حتما بعد انتهاء السرد .. 
سرد مليء بالصدق .. سرد مليء بانكشاف المرء على عوالمه الحقيقية .. سرد مليء بالعفوية و المراوغة في آن واحد .. حيث تتسع العبارة و تغبش الرؤية و تتدثر الكلمات بغلالة من الضباب الكاشف !! 
اللغة جاذبة عميقة .. بلغت أوج جمالها في وصف رحلة الميلاد الجديد ص ( 87 ) .. و تعالى إيقاع الحيرة في أعلى موجة من تموجاته داخل النص ص ( 82 ) .. و جاوزت اللغة حدود الزمان لتتشح بظل مقامة هاربة من العصور السالفة عند ص ( 90 ) و ما بعدها .. 

” باب الحيرة ” رواية تجعل التشويق كثيفا في الرمق الأخير فيسأل القارئ : هل من جزء ثان للحيرة ؟ 
و بالفعل كان الجواب بأن ثمة جزءا آخر للحيرة و هو ما قرأته في ” أبناء السماء ” . و على الرغم من اختلاف الشخصية ” البطل ” إلا أن جوهر الفكرة يراوغ ليجعل القارئ يظن بأن شخصية البطل في باب الحيرة ” قيس ” هي ذاتها في أبناء السماء ” شخصية المهندس الذي درس في روسيا ” .. فالهم الذي شغل الشخصيتين هم واحد و إن كانت سبل التحرر من وطأته متشعبة .. و على سبيل المثال فإن قيسا في باب الحيرة قد أوى إلى القراءة التي لم تزده إلا غرقا و تيها و هو يراوح معها بين المستمتع الفرح بما وقع بين يديه من كنوز ورقية مغيبة و بين أن تعتريه رعدة المعرفة البكر فتصيبه بدوار الدهشة و توقعه في حضن الارتباك المرير .. ثم هو يبدل طريقة استجلابه لقدر من الطمأنينة فيلجأ لحضن سعيدة علها تدثره من برد روحه القاحلة ثم يأوي إلى مراتع الحنان لدى هاديا التي ظلت قريبة بعيدة و لم تجمعه بها لحظات حقيقية للتوحد مع الآخر و الولادة مجددا على يديه فظل التيه يحاصره إلى أن عاد إلى بلاده مثقلا بهواجسه ملئيا بالأنين و الغربة إلى أن تلقته مصحة الأمراض النفسية .. 
و في ” أبناء السماء ” رافق الهذيان بطل الرواية منذ أول مشهد فيها إلا أن نهايتها أفضت إلى زحزحة الجبل الجاثم على صدره بعناقه للطاقة النورانية المكنونة في صحراء رم حيث التقى بواحة طمأنينته هناك فربت على بدنه المنهك و ربط على قلبه الذابل حتى لكأن الحجب قد انكشفت و أبصر ما لا يبصره الآخرون .. هذا التماهي أو التقارب الشديد بين الشخصيتين مرده أن الأديب تسكنه الفكرة الواحدة في الروايتين فلم يشغل نفسه بتصوير الشكل الخارجي أو العلائقي الاجتماعي للشخصيتين إلا ما كان منه خادما للفكرة و هاديا إلى باب من أبواب الرؤية الروائية لديه ، و الروايتان تقدمان للقارئ فرصة شهية للغوص فيما وراء العادي من الأسئلة و بعيدا عن المألوف من الحكايا و القصص لا سيما في ” أبناء السماء ” هذي الرواية التي تؤكد أكثر من سابقتها براعة يحيى القيسي في الإمساك بخيط التشويق الذي لا ينقطع حتى وصولك لآخر حرف في الرواية فكل جزء منها يملأ فضاء الفضول لدى القارئ لمعرفة الحدث الذي يليه هكذا بصورة مستمرة دينامية ، فضلا عن تلك الأسئلة العابقة بالدهشة ، تستوقفك لتفكر في إجاباتها و كأنك طرف سيتم استجوابه و معرفة رأيه فيها ! و ثمة عنصر ثالث مهم ساهم في شحن الرواية بطاقة التشويق و هو طبيعة الصراع الذي تمثله الأحداث و القصص الجزئية التي تتشكل منها الرواية و كأنها أحجار فسيفساء مرصوفة الواحد بجانب الآخر بغية تشكيل لوحة كاملة من الجاذبية و الاستغراق في القراءة . فأن تتحدث عن عوالم فضائية يمكن للإنسان التواصل معها من خلال طقوس معينة أمر غرائبي حافل بالدهشة و باعث على التوقع و التخمين ، و هذا ما يجعل القارئ مستمرا في ملاحقة الأحداث من جهة و التفكير خارج دائرة النص في إمكانية وقوع الأحداث على أرض الواقع من جهة ثانية .
و فيما يتعلق بالرؤية لدى يحيى القيسي فإنه يمكن أن نوجزها في أن الحقيقة تستوجب البحث و أن البحث يفضي للحقيقة التي لن تكون مرئية دوما فثمة أشكال أخرى لليقين لا نراها بأعيننا و لا نسمعها بآذاننا لكننا نستشعرها بحواسنا القلبية و الروحية ، و أن الإنسان الباحث عليه أن لا يستسلم أو يتخلى عن حلمه بلقاء إجابات حرة مقنعة تنتشله من دوامة تيهه حتى و إن بدا السؤال صعبا و عميقا و مفضيا من قبل الآخرين إلى القدح و الاتهام بالجنون ؛ لأن هناك من سبقونا لمثل هذا التيه فعاموا قبلنا في دوار تلك الأسئلة و قلّبوها و قلّبتهم هي على نارها الوحشية لكنهم خرجوا من بين براثنها سالمين ناجين بعقولهم من الضياع و نفوسهم من الهلاك وسط ضبابية العوالم الغامضة السحيقة المرمى ..
مجددا سأعتقد أنني خلال مشروعي لدراسة الروايات الأردنية لن أعثر على شيء مطابق لهذا الذي قرأته لدى يحيى القيسي و أنا أسجل اعترافي هنا بأن الرواية الأردنية جديرة بالدراسة و الملاحقة و المتابعة لا تقل شأنا في ذلك عن سائر الإنتاج الأدبي العربي و العالمي ، مع ضرورة الفرز و البحث عن مشتركات عضوية تشكل ملمحا مميزا لإنتاج الروائيين الأردنيين و سواء أوجد هذا الملمح أم لم يوجد فإن إنتاجا غزيرا من الأعمال الروائية في انتظار الدارسين و النقاد ليقدموه للقراء عبر رسائل نقدية قصيرة تومئ و توجز داعية إياهم ” القراء ” لإعادة إنتاجه مجددا من خلال قراءاتهم التذوقية الخاصة تلك التي تجعل لكل رواية نكهتها المميزة في ذهن القارئ . 

* كاتبة من الأردن

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *