أنا لست «عاهرة».. وأعرف جيدًا مكان السفارة


آلاء سعد

«أعرف جيدًا أين هي بوابة السفارة الأمريكية والبريطانية، ولم أسأل عنها».. و«لست عاهرة»، حقيقتان أنا الأكثر يقينًا بهما على الرغم من سهولة إدراكهما.. لكن الأمر في مجتمع كهذا دائما ما يبدو أصعب مما هو عليه، حسنًا، من المؤكد أنك تسأل الآن: ما هي «حكاية السفارات» التي أعرف جيدًا مدخلها، ومن اتهمني بـ«العُهر» لأقول أنني «لست عاهرة»؟ سأخبرك..

السفارتان هما سفارتا “بريطانيا” و”أمريكا”، الواقعتان على بعد دقائق معدودة، إن قصدّتهما من مقر عملي ببوابة الشروق بشارع رستم بجاردن سيتي؛ ولكني دائمًا ما أتجنب المرور من أمامهما، لا لأمر يتعلق بالعلاقات الدبلوماسية بين مصر وبريطانيا؛ ولكن بسبب أفراد قوة تأمين السفارات الأمريكية والبريطانية الذين يقومون بمهمة التحرش بكل ما هو مؤنث، إما بنظراتهم المتفحصة المصحوبة بالتهامس فيما بينهم.. وانتهاءً بالتحرش اللفظي.
بدأت الحكاية حين قادني طريقي المعتاد قبل أيام للمرور من هذا الشارع المُسمى بـ«توفيق دياب»، والذي يشبه «الثكنة العسكرية»، ليمارس أحد أفراد الأمن الموجودين مهمته المُعتادة كـ«مُتحرِش» .. تخيّلوا معي المشهد: (التوقيت: نهار خارجي، المكان: شارع بجاردن سيتي، الأبطال: فرد أمن يتحقق من رخصة السيارات المارة إلى الشارع المقابل للسفارة وزملاؤه من قوة التأمين .. وللأسف “أنا”).
أنا: في أذني سماعة الأذن كالمعتاد لمساعدتي على التشويش من ألفاظ التحرش اليومية، أسير في صمت على بُعد حوالي 30 مترًا من العمل.
فرد الأمن: ينظر إليّ نظرة متفحصة لا يمكنك أن تخطئ مدى انحطاطها مهما كنت في حاجة لإجراء جراحة تصحيح إبصار، ويبدي تعليقًا بصوت لم يحجبه صوت سماعات.
أنا: وقد «نقحت عليّا» كرامتي كإنسانة من المفترض في كوكب زُحل الموازي أن تحصل على حقها في السير دون أن تُنتهك، وصفعته.. نعم أعترف.. صفعته.
فرد الأمن: رد الصفعة بمثلها على وجهي مع مضاعفة القوة ومصاحبتها بعشرات من ألفاظ السباب الذي طال سابع جد لأمي وأبي.
أنا: بدأت في رفع صوتي ومحاولة النداء للسادة المسؤولين عن قوة التأمين، وبعد دقائق تحرّكوا من مكتبهم الكائن في آخر الشارع واقتادونا إليه.
أحد مسؤولي الكتيبة: إيه اللي حصل؟ وتكلمي بهدوء. أنا: الأمن اللي المفروض يحميني مُتحرِش، ودي مش أول مرّة بتعرّض لتحرش هنا، وذكرت «خناقتين» سابقتين مع الأمن في نفس الموقع، هل المفروض اشتكيكم في السفارتين علشان الآداء يتغير؟
مر الحديث بمراحل عديدة من بينها نبرات هادئة، وأخرى تتهمني بالتعدي على موظف عام أثناء تأدية «مهامه الرسمية»، وأخرى تُشكك في قواي العقلية للانفعال بسبب تحرش لفظي، وأُخرى تشكك في حواسي أساسًا، وترجّح أنني فقط ظننت أنه نظر إليّ بهذه الطريقة وتحرّش بي، وأخرى تنسب لي وقائع المشادات السابقة مع أفراد الأمن بنفس المكان، والتي ذكرتها أنا بنفسي، باعتبارها دليل إدانة واضطهادا أمارسه أنا ضد درع الوطن، ولومي على محاولة الاحتماء والشكوى بالسفارتين، وحديث طويل عن الانتماء، ونبرة تهديد ضمنية تقول لي “الكلام ده ضدك!”.
انتهي الأمر بأحد الخيارين، إما أن يتم تحرير محضر ضدي للتعدي على المُوظًف «الهُمام»، الأمر الذي يترتب عليه قضاء الليلة في تخشيبة القسم مقابل محضر التحرش، أو مُذكرة صُلح نوقّعها بقسم قصر النيل، تذكر كذبًا أنه قد وقعت مُشادة كلامية بسبب سؤالي عن موقع السفارة، ورد الجندي بطريقة «لم تعجبني»، ولكّني أعرف جيدًا أين هي السفارة الأمريكية والبريطانية، ولم أسأل عن أي منهما.
اخترت الصُلح، لا لآني تراجعت عن حلم الحياة في الكوكب الموازي، بل لأني بالفعل مُنهكة نفسيًا وجسديًا، ولدي أيضًا ما يكفي من المسؤوليات صباح اليوم التالي وحتى نهاية الأسبوع. اللافت في الأمر أنه فور خروجنا من القسم الذي كان يصافح فيه «خِصمي» «كاتب مُذكرة الصلح» ويشرب كوبًا من الشاي أثناء الإجراءات، نظر إلي وقال: “كان زمانك بايته في الحجز” .. آه والله.
أما عن كَوني «لست عاهرة».. فكانت هذه حقيقة أخرى كان علي الصراع لإثباتها بعدها بساعات، ولكن حرفيًا «الغثيان» منعني.
ففي نفس اليوم وبعد التأخر عن موعد العمل أربع ساعات، وقضاء باقي ساعاته بالمقر حين انتهيت من زيارة قسم قصر النيل، وأثناء العودة للمنزل أخيرًا، وجدت لفظًا أكثر انحطاطا من سابقه يُلقى علي من أربعة رُكاب على «متوسيكلين» متجاورين، على الرغم من قدر الإنهاك الذي كنت بالفعل أعانيه، لم أتمكن من منع نفسي من سبّهم بصوت مُرتفع، الأمر الذي جعلهم يتوقفون ويبدأون في مرحلة جديدة شملت وصفي وأمي وجدتي وجدة أمي – رحمها الله – بالعاهرات.
مُجددًا صفعت أحدهم.. نعم أعترف صفعته، لأجده يمسك برقبتي ويحاول ضربي في معرض الطريق، تجمّع المارة، وطلبوا منّي الرحيل بدعوى أنني أخذت حقي وضربته، وحين قلت: “فين حقي اللي أخدته ده؟” رد أحد المتجمهرين: لو ما كنتيش «عاهرة»- وهو اللفظ المرادف الأكثر تأدبًا– ماكنش عملّك حاجة!
حينها بالفعل منعني الغثيان من إكمال المعركة، ربما لأنها يومية ولأني مُنهكة بما يكفي، ولكّني وإن لم أتمكن من خوضها حتى النهاية، ولأن الخِصوم آنذاك أكثر من محاولة اقتيادهم إلى جهة في كوكب موازٍ تأتي لي بحقي .. أؤكد لكم حضرات السادة الأفاضل أنني “لست عاهرة!”..
الشروق

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *