من شعراء القرن العشرين .. كامل الشناوي


*آمال الديب

خاص- ( ثقافات )

كان من أبرز صفاته خفة دمه وبشاشته، وقد اشتهر بمرحه ودعابته وسخريته اللاذعة, وسرعة بديهته في نظم الشعر, كان كسولاً في الكتابة، مقلاً، لكن الوحي حين يتلبسه فهو القادر على تطويعه في يسر وسهولة, يأخذه العشق إلى عالم آخر, وإن حزن فلديه من الخيال والموهبة والقدرة ما يمكنه أن يكون من أعظم شعراء عصره. كان يهوى احتضان المواهب الشابة وتشجيعها؛ يتحمس لها ويكثر من الإشادة بها, فقد كانت له وقفات مشهودة مع الفنان عبد الحليم حافظ والموسيقار بليغ حمدي, وغيرهما الكثير. 
إنه.. كامل الشناوي، شاعر وصحفي مصري (1908-1965)، ولد في 7 ديسمبر 1908 في “نوسا البحر” مركز أجا بمحافظة الدقهلية. عمل بالصحافة مع الدكتور طه حسين في “جريدة الوادي” عام 1930 وكان ميلاده عقب وفاة الزعيم الوطني مصطفى كامل فسماه والده “مصطفى كامل” تيمناً بوطنية الزعيم الراحل وكفاحه، وقد تدرج والده الشيخ سيد الشناوي بالقضاء الشرعي، حتى أصبح رئيس المحكمة العليا الشرعية، وكان ذلك أعلى وأرفع منصب قضائي في مصر في ذلك العصر. كما كان عمه فضيلة الإمام الأكبر الشيخ محمد مأمون الشناوي شيخ الأزهر الشريف. ونوسا البحر هي قرية والدته صِـدِّيقة هانم بنت سـعيد باشا، أما والده فولد في الزرقا بمحافظة دمياط – كانت تتبع الدقهلية حينئذ- لأسرة تعود أصولها للسنبلاوين.
عرفه الجمهور العادي من خلال “لا تكذبي” التي شدت بها نجاة الصغيرة، و”حبيبها” التي غناها العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ، ومن قصائده التي لم تغنَّ قصيدة بعنوان “خطايا”، ويقول فيها:
زعموا حبي – يا قلب – خطايا!
لم يطهرها من الإثم بكايا!
والخطايا مالها من غافرٍ
فترفَّق، وتمهَّل
في الخطايا..
***
حسبنا ما كان
واهدأ.. ها هنا
في ضلوعي
واحتبس خلف الحنايا!
لا تُثِر لي ذكرياتي
إنها شيَّبتني..
شيَّبت حتى صبايا!
***
ذكريات رسفت في أدمعي وشجوني
وتمشَّت في دمايا!
ذكريات حطمتني
ذكريات لم تدع من أجلي إلا بقايا!
***
أنا لا أعرف حدًا لهواها!
أنا لا أعرف حدًا لهوايا!
كم يريني النوم منها عجبًا!
فتنةً يقظى
وروحاً، وسجايا!
ضمها صدري
ومست شعرها.. راحتي
وارتشفتها شفتايا!
وعليها من ذراعي وثاق شدَّه قلبي
وأرخته يدايا!
فإذا ما نفضت عيني الكرى
لم أجد بين ذراعي سوايا!
***
آه من نومى.. ومن صحوي
ومن ساعةٍ تعلن أو تخفي أسايا!
آه منها
أنا لم أدرك مداها!
آه مني
هي لم تدرك مدايا!
حطمتني مثلما حطمتها
فهي مني.. وأنا منها.. شظايا!
وتعد تجربة الشاعر كامل الشناوي تجربة ثرية، وهي مثال مبكر لانتقال الكتابة إلى مرحلة مغايرة، انتقالاً ناعماً، دون صخب ادعاء كتابة جديدة، ولا صخب أو تهليل لاتجاه معين. 
ومن قصائده الناعمة الصارمة في آن قصيدة بعنوان “في الزنزانة”، يقول فيها:
يدور حوار بين جميلة والسجانة داخل
الزنزانة : السجانة تبدى إشفاقها على
جميلة لأنها لم تقترب من الماء والطعام والغطاء
فتقول لها جميلة :
ما دامت أرضي وسمائي
نهبًا لضراوة أعدائي
فالجوع غذائي..
والعري ردائي..!
وتقدم لها السجانة كوب ماء قائلة: السجانة:
صوتك مخنوق، خذي اشربي
قد هدَّك الحزن وأوهى القوى!!
جميلة: لا أشرب الماء ولا أرتوي
وفي بلادي ظامئٌ ما ارتوى!!
ما دام في الدنيا مساكين
ما دام في دنياي سكين
فالماء في حلقى سكين!!
واللافت أن كل نص من نصوصه يتميز بروح مغايرة، فهناك نصوص تشعر بأنها حكاية درامية تامة، ومكتملة الأركان، كقصيدة “ثم ماذا؟”:
هل من جديد
أجتني منه لوعتي وعنائي؟!
هاتِ ما قدر القضاء علينا
ولتَفِض كأس عيشنا بالشقاء!
لستُ أخشى القضاء
إن قصد العدل
ولكن
أخاف ظلم القضاء!
ورضينا بالظلم
لو أن دهري ينتهي ظلمه
بهذا الرضاء!
سخريات هذي الحياة
وسر
لم يزل غامضاً على الأذكياء!
***
أي معنى للورد
يولد في الروض صباحاً
وينتهي في المساء؟!
والجمال الذي تحول فيه
نبض قلبي جمرًا من البرحاء!
كيف يخبو ضياه
حتى كأن لم
يك بالأمس بالوضيء الرواء؟!
وترى دمعة الحنين إليه
حول الدهر سيرها للرثاء
***
غدرات الأيام تأتي سراعًا
وسراعًا تمضي ليالي الهناء
رب ليل ظللت أرشف فيه
كل ما شئت من رحيق اللقاء
وأتى الصبح بالخطوب التوالي
من عذابٍ، ولوعةٍ، وجفاء
***
أين قلبي؟!
فقدته في غرامي!
أين عيني؟!
أذبتها في بكائي!
ورجائي
أضاعه لي دهري
في شبابي
يا رحمتا للرجاء!
***
لسواء عليَّ عشت سعيدًا
أم قضيت الحياة في بأساء!
فالزهور التي ذوت ظامئاتٍ
كالزهور التي ذوت في الماء!
والطيور التي تغرد في الأيك
سروراً
مصيرها للبكاء!
عشت في عالمٍ
تهيج شجوني
كلما قيل عالم الأحياء!
***
علموني كيف الغباء
لأحيا
هانئاً بينهم حياة الرخاء!
وامنحوني بعض الرياء
لعلي أرتوي غلةً
ببعض الرياء!
ومما انتشر عنه أنه كان يطلق النكات الساهرة دون أن يضحك، وقال عنه الكاتب الراحل أنيس منصور: “وعرفنا شاعراً جميلاً يرتجل النكت: هو الشاعر الرقيق البديع الحزين كامل الشناوي، فهو صحافي لا نظير له في الصحافة المصرية ـ اليوم وأمس. فمن غير كامل الشناوي لم تكن سهرات ولا حكايات ولا نوادر ولا نكات يرتجلها من الموقف الذي هو فيه… وكانت السهرة تبدأ بكامل الشناوي بحضوره.. ويقول ويقول.. وتقفز النكتة اللاسعة من هذا الموقف.. وتتناثر هذه النكت في مصر والعالم العربي بسرعة هائلة.. ويسأل الأصدقاء في الرياض وبيروت والدار البيضاء عن آخر ما قال كامل الشناوي.. والذي قاله كثير جداً، والذي سجلناه قليل جداً.. مثلاً كان مفتوناً بفتاة تعمل جرسونة في فندق هيلتون، وكانت لها عينان جميلتان فكان يقول لها: عيناك توجعني، والبنت المسكينة لا تعرف ولا تفهم هذا التعبير الجميل. فكانت تقول له: لا.. عيني بتوجعني أنا…
وكان يقول لمذيعة التليفزيون المرحومة سلوى حجازي: إنها من شدة أدبها ورقتها إذا فتحت درج مكتبها.. دقَّت عليه قبل أن تفتحه ـ منتهى الأدب!”.
ومن نوادر كامل الشناوي أنه في إحدى سهراته مع عبد الوهاب في أحد الفنادق قام أحد المخمورين وسب عبد الوهاب، وحاول الاعتداء عليه، فكتب كامل ساخراً:
“ما أصعبه 
ما أعجبه
ما أغربه
يا ليت إنساناً بمد الكف كان هذبه
وعلى الرصيف وضَّبه
ونال منه مأربه”..
هذا هو الشاعر الظاهرة الجدير بتسليط الضوء عليه، وهذا غيضٌ من فيض.

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *