” إرادة الكتابة” وجحيم الثنائيات


لنا عبد الرحمن

تخوض الباحثة بلقيس الكركي في كتابها ” إرادة الكتابة” تجربة بحثية شائكة، ومغايرة للمألوف تبدأها بعبارة هسيودس ” في البدء كانت الفوضى”. وانطلاقا من هذه العبارة تطرح أسئلتها الغائرة في عمق فعل ” الكتابة” واستمراره، وسط ” عالم رتيب من الفوضى، وآخر مشتهى من الإيقاع. صور مرتجلة وصور مؤلفة”. 
في الفصل الأول الذي حمل عنوان:” الهاجس الأكبر: الصورة”، تعالج الكاتبة مسألة الرقباء سواء الآخرين، أو الرقيب الذاتي، الصورة الخطأ، وخطر الحقيقة.الآخرون يقتحمون حياتنا يرصدونها من دون استئذان، يغدو العالم مسرحًا ونغدو نحن ممثلين على خشبته كلما ساورنا إحساس بالمراقبة. من هذا المنطلق تجد الكاتبة أننا نعيش في عالم متناهي الفوضى، لا منطق يحكمه في حين أن المنطق موجود في الفن،في الموسيقى، والرقص، والشعر، من هنا تأتي حاجتنا للفن بسبب ” فوضى العالم. لغياب النص إذن فائدة، لولا هذا الغياب، لولا فوضى العالم خارج الفن لما احتجنا الأخير حلا”. وانطلاقا من هذا التحليل نجد مبررًا لافتتاح الكتاب بعبارة ” في البدء كانت الفوضى”. لكن الفوضى هنا ليست في الفن فقط، فالأساطير القديمة تقوم على فكرة أن الخلق الإلهي فعل ترتيبي لفوضى لا تحتمل، بل إن معظم الأنشطة البشرية نظرية وعملية محكومة لتلك المعركة الأبدية.
لكن في نفس الوقت ترى الكاتبة أن غياب النص ضروري أيضًا، إذ لولا هذا الغياب لصارت الحياة رتيبة وخالية من المفاجآت والتوقعات. هذا التحليل يجعلها تتوقف عند دلالة المصادفات والأقدار في الأدب. وتطرح أسئلتها حول تلك الأحداث المصيرية الكبرى في أعمال أدبية حفرت مكانتها في الذاكرة الإنسانية. ومما تتساءل حوله إذا كان السر في الحب في زمن الكوليرا، هو سلسلة اللحظات المتوترة تلك؛ أم أن المصادفة في رواية فلوبير ” التربية العاطفية” هي التي تجعلها أسيرة إلى النفس. لكن في المقابل تلك الصدف الموجودة في الأدب لا نعثر عليها في الحياة.ويظل طموحنا أن يكون لنا مصادفات جميلة مثل تلك التي تقع على المسرح، أو في رواية، فالفن الجميل كما يرى ستاندال يذكرنا بتوقنا إلى مثله، إلى الحلم بالسعادة.
وأمام ثنائية الفوضى والنظام والعبث والمصادفة، تصل الباحثة إلى رؤيتها للكائن البشري بأنه ” رُمي للعالم مشوها وناقصاً شاء أم أبى” ص 25. ولعله من أجل كل هذه الأسباب ثمة حاجة ملحة للكتابة ” من أجل الوجود قبل الخلود بكثير”، فالكتابة كما ترى الكركي تحمينا ” من الاعتداء، خشبة مسرح تبنيها أنت”.
تحلل الكاتبة دلالة الصورة سواء في رؤيتنا لأنفسنا، أو للآخر، نحن نسعى إلى المرايا فقط كي نرى صورتنا، كيف يراها الآخرون.وفي كثير من الحالات تكون هذه الصورة مفترضة لأنها تنطوي على ما لم نحققه فعليًا، بل على ما نتخيل أنه موجود فينا، وننتظر من الآخرين أن يعاملونا على أساس وجوده، في حين أنه متخيل ولم يتحقق بعد. تتناول فكرة وهم الصورة مع رواية ” الضحك والنسيان” لميلان كونديرا، فالبطل ميريك أزمته تكمن في رؤيته المنقوصة لصورته الداخلية عن نفسه، وميشيل فوكو قال مرة ” لا تسألوني من أنا ولا تطلبوا مني أن أبقى كما أنا. اتركوا للشرطة والبيروقراطيين التحقق من أن أوراقنا وفق النظام”. وتتابع الباحثة في تقديم الدلائل عن صعوبة رؤية الذات مستندة لقول أرسطو “إن الوصول لأي معرفة يقينية عن النفس هو من أصعب الأشياء.”
في جحيم الثنائيات
الفصل الثاني الذي تتناول فيه الكركي ثنائيات الحياة، بين الحياة والكتابة، أي بين الفن والواقع في أعقد التباساته، وفي هذا المعترك يكمن ألم الوجود الخطر. يمتاز هذا الفصل عن الفصل الأول بحضور موضوعي للذات بصيغة ” المخاطب”، تحضر ذات الباحثة هنا، ونقف أمام مواجهة وتساؤلات عن غاية الكتابة وجدواها، وأيضا عن غاية الحياة الواقعية بما تشمله من تفاصيل في العلاقة مع الآخر؛ ولعل الأهم التساؤل عن غاية الحرية، تنوعاتها، وجوهها، لتعود إلى فكرة الصورة، وأيضا فكرة الخيانة، تربط هذه الأفكار بمدلولات الكتابة وتتساءل : ” هل من مفر من أن يصر الخائن على التبرير حين يجد نفسه بعد أن كان مقاومًا ثائرًا شرسًا مخلصًا لأيديولوجيته، يبتغي هدنة أو تعايشًا سلميًا مؤقتًا مع الأعداء” ص 200.
لعل هذا الفصل يبدو أكثر إيغالا والتباسا بين الذاتي، والموضوعي، بين التأمل الغيبي، والنص الثابت، حيث التساؤل عن اليقيني والمحسوم تطرحه الكاتبة بأكثر من أسلوب، وتدخل إليه عبر أكثر من باب.تجري الكاتبة مقارنات بين بلقيس ملكة سبأ، وبين أوديسيوس الذي أسرته كاليبسو لسبع سنين، ثم تتوقف من جديد عند ميلان كونديرا في روايته ” الجهل” قائلة ” عوليس وبلقيس. كلاهما كآيرينا بطلة الجهل لكونديرا تلك المهاجرة من وطنها، بعيدا عنه كانت تفكر في الفردوس الذي فقدت. الجحيم الحقيقي هو في المنزلة بين المنزلتين،وسط تنازع الجهات وتزاحم الثنائيات”ص 207.
تغوص الكاتبة عميقًا في الأساطير متنقلة بين بلقيس، شولميث إنانا عشتار،وأختها آرشيكيغال التي نزلت إلى العالم السفلي..ولا تتوقف في الاستدلال على أفكارها بالعودة إلى الأسطورة فقط، بل تتناول أبيات شعر للمتنبي، وقيس بن الملوح، وابن زيدون. يبدو الفصل الثاني محملًا بهواجس عاطفية ضمن التوقف عند مفهوم الحب، واللذة، الحنين، والفراق.وإن كانت الكاتبة تعتبر أن ” بلاد الأدب هي بلاد العجائب”، فإنها تنهي الفصل الثاني بأن تشبه نفسها بأنها تجلس مثل “أليس” في الحديقة بعد أن ضاع منها باب العجائب، لكن ظل معها توقها للكتابة.
في الفصل الأخير الذي حمل عنوان ” حتمية الأختراع” يعود سؤال الكتابة إلى الواجهة ” لماذا الكتابة؟ لأسباب محتملة، وربما مخترعة، كالصورة أولا، والتباس الثنائيات في جحيم جائع أبدا”. تواجه الكاتبة ذاتها وتصل إلى خلاصة الرحلة بأنها تريد الكتابة، لكنها تتساءل ” ما معنى أريد”.ويتفرع السؤال ليكون :” هل اخترت الكتابة عن حرية ووعي، أم اختارتني طالما أن الوعي مشكوك في وجوده عاريًا من سلطات خفية متعددة وتنزع عن الإرادة صفة الحرية؟”ص 302
ولعل تتبع فعل الإرادة ومدلولاته طرح في رؤى الكاتبة وقوفًا إلزاميا أمام نظريات حديثة ” تسلب الإنسان إرادته الحرة الواعية وتنسب كل شيء إلى تنازع بين قوى النفس المختلفة يكون العقل فيها آلة عمياء”، وعلى مستوى الفكر العربي هي الأفكار التي تقول بالجبرية والجهمية التي ترى أن الإنسان مجبر مسير لا حر مخير. تعود الكاتبة في هذا الفصل إلى الجزء التحليلي والتفكيكي في رؤيتها لفعل الكتابة، وتحضر مقولات ميشيل فوكو في أكثر من موضع. ولعله في العودة إلى عنوان الكتاب ” إرادة الكتابة” فإنه من البديهي أن تتمحور التساؤلات كلها حول هذا الفعل، بيد أن بلقيس الكركي تفرعت منها للبحث في هوية الإنسان ككل، تحديدًا في علاقته مع ذاته، ومع الآخر، مع صورته عن ذاته، وكيف يريد للآخر أن يراها. ينتهي الفصل الأخير بعبارة تنسجم مع البداية : ” في البدء كانت الكلمة. الكلمة تخلق الصورة. في المنتهى تبقى الصورة. والحقيقة أبدًا هناك، فقط هناك، رغم كل الاختراع”. 

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *