كتابة الضحكة والمأساة


*أمير تاج السر

منذ فترة قصيرة، راسلتني فتاة إنكليزية، اسمها «سارا» كانت قرأت لي رواية «إبولا 76» التي كتبتها عام 2012، وصدرت مؤخرا، مترجمة للغتها.
كانت القارئة تشكو من قتامة الجو الكتابي العام للقصة، حيث تجري أحداثها داخل مأساة، وقتامة الجو الكتابي عامة، لكتاب أفارقة، قرأت لهم أعمالا قصصية وروائية، إما مكتوبة في الأصل باللغة الإنكليزية، أو مترجمة إليها من لغات أخرى، بحيث أنها لم تعثر على أي آثر للسعادة إلا نادرا. فدائما ثمة مجاعات قاتلة، وأمراض غريبة الأطوار، ثمة غابات تبتلع الحياة، وأنهار جائرة، وانقلابات عسكرية، ومظاهرات يراق فيها الدم، من دون أن يعرف أحد من أراقه، ولماذا؟ وحتى روايات رواد الأدب الأفريقي الكبار، أمثال تشينوا تشيبي، ونغوجي واثيونغو، لم تخل حقيقة من تلك الأفكار. وتختتم القارئة الغربية رسالتها بأن تسأل:
لماذا لا تكتبون الضحكة التي من المفترض أنها موجودة لديكم، ويمكن أن ترتسم على كل شفة تمنحها فرصة؟ لماذا لا تكتبون إرهاصات المستقبل التي تظهر جلية، في الخطوات الأولى، لطفل يتحسس مشيته بتعثر؟ وليالي العرس بزخمها وطقوسها، لماذا لا تكتب، حتى ولو بدافع التعريف بها؟
هذه الرسالة، ليست الأولى التي تصلني من قراء غربيين، صادف وأن قرأوا لي شيئا، ولا بد أن كثيرا من الكتاب الأفارقة والعرب المترجمين إلى لغات غير لغتهم، قد تلقوا مثلها من قراء لم يكتفوا بالقراءة والفهم، وحب العمل الروائي، أو كرهه، وانتهى الأمر، لكنهم سعوا للتواصل مع الكاتب نفسه، من أجل مزيد من المعلومات. هذا النوع من القراء، ليس بالطبع حكرا على الغرب وحده، لكن أيضا لدينا قراء عرب مخلصون، يطالعون تجارب الكتاب، وإن أحبوهم، سعوا للتواصل معهم، بمودة، والتواصل مع قراء آخرين، معرفين بتجارب من أحبوهم من الكتاب، وشخصيا بات لدي العديد من هؤلاء القراء الأصدقاء، المخلصين، وسعيد بالتواصل معهم.
الفتاة الإنكليزية، تعاملت معي هنا بوصفي كاتبا أفريقيا، ومؤكد أنها تعرف جيدا خصوصية السودان، كونه عربيا وأفريقياً في الوقت نفسه، أيضا الجو العام للرواية كان أفريقيا كاملا، فالأحداث تجري بين الكونغو، وجنوب السودان، ولا رائحة لآثار العرب، إلا في التجار القليلين الذين يستوطنون في تلك البقع الأفريقية، ويتاجرون في خيراتها، وسط المواطنين، وفيهم من صاهر أبناء تلك المناطق، واكتسب منهم، ما يملكونه من غشامة أو حيل. وربما يوجد بعض موظفي الحكومة والمدرسين، من شمال السودان، يأتون ويذهبون.
نعم الكتابة الأفريقية، وأيضا العربية، أو فلنقل الكتابة الإبداعية في العالم الثالث، معظمها يستوحي من المأساة، يستوحي من الوحشة والعزلة، والموت والدمار، وتفشي الأمراض، والفساد، وكل ما يمكن أن يكون وجها ملطخا بالطين لمجتمع يمكنه أن يغدو نظيفا إن أراد. فمنذ عرفت أفريقيا مثلا، وبرغم تقلبها في الثروات الطبيعية من بترول ومعادن، ووجود بهارات السياحة في هيئة غابات وأنهار ومنتجعات رائعة، عرف الفقر، والجوع والمرض بأنواعه، فلا يوجد مرض النوم إلا في أفريقيا، ولا توجد الملاريا أو حمى المستنقعات بأنواعها إلا في أفريقيا، ولا يوجد من يجوع إلى حد أن يغدو هيكلا عظميا إلا هناك، وأيضا عرف الجنرالات الذين يتبخترون في الحياة السياسية لدولهم، يلوحون بالمعتقلات والمشانق، وهكذا لتصبح التنمية فعلا ثانويا، وتصبح البلاد التي يمكن أن تنتج الذهب منتجة للغبار ولا شيء آخر.
ولأن الكتابة في النهاية هي نتاج تلاحم بين كاتب وبيئته، أو بين كاتب ومجتمعه، وبقية المجتمعات في منطقته الجغرافية، فلا بد أن تهيمن كل تلك النواقص على كتابة أفريقيا، وكتابة العرب في بعض الأجزاء من الوطن العربي.
لقد كان إيبولا مرضا حقيقيا، حدث في هبة أولى موثقة في أواسط سبعينيات القرن الماضي، ولم يكن من خيالات الكتابة. أيضا هب في العام الماضي هبته الثانية التي كانت أكثر بطشا وترويعا، وأفزع العالم كله، ولدرجة أن خف السفر من وإلى بعض الأماكن، وبات الترقب فعلا كبيرا مسيطرا على سكان كل القارات. وهناك أمراض أخرى غير إيبولا موجودة، وحية، وممكن جدا أن تنطلق نشطة في أي يوم من الأيام، كذلك توجد براكين خامدة تنشط من حين لآخر لتدمر القرى والحقول حولها، وتوجد عوائق أخرى تظل عوائق دائمة لا تتزحزح من أماكنها، منها الصراعات القبلية الحادة، بين سكان ينتمون لمئات الأعراق وكل عرق ينادي بأحقيته في السيطرة على بلاده، ولا يفكر لحظة بأن ما يود السيطرة عليه، قد يكون حطام مدن وقرى، وحقول ومدارس، وكل ما يمكن أن يصنع مجتمعا آمنا متقدما.
إذن الكتابة حقيقية، ومبنية على جزء من الحقائق، ثم يأتي الخيال ليخلط كل ذلك بالفن، من أجل أن يصبح النص الواقعي الصرف، نصا فنيا، يجتلب قراءه.
لقد كان سؤال القارئة عفويا، ولكي تصبح الإجابة مقنعة، لا بد أن تأتي تلك القارئة، في رحلة إلى عالمنا، لترى أن الخدوش التي تطالعها في نصوص كتابنا، ليسوا هم من قام بنحتها لكنها منحوتة في الأصل. الضحكة موجودة بالطبع لكن تصبح كتابتها ترفا بجانب المأساة. الطفل الذي يحبو أو يخترع خطواته للمستقبل، موجود، لكن أفعاله لا تغدو ملاحظة بجانب ضحايا سقطوا لأي سبب، أو قرية أبيدت بسكانها لأن قبيلة ما، لم يعجبها شكل بيوت القش في تلك القرية.
كنت التقيت سيدة أمريكية منذ شهرين، وعرفت أنها عاشت فترة في رواندا، لدرجة أن منحها الروانديون اسما أفريقيا، كانت تزهو به لفترة ثم نسيته. وحين أهديتها نسخة من «إيبولا 76» وقرأتها، لم تبد مندهشة، ولا غير مصدقة، ولا سألتني، أين توجد الضحكة؟ أو أين بذور السعادة؟
كانت تعرف من أين استوحى النص حكاياته، وفي أي بيئة مشى بها حتى النهاية.
______
*القدس العربي

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *