عبود الجابري: على السياسي أن يعترف بدور المثقف في تقرير مصائر الأوطان



*منى شكري

أكد الشاعر العراقي المقيم في الأردن عبود الجابري، أنَ الشعراء لا يقدرون على انتشال الوطن من حالة التردي التي يعيشها إلا من خلال ما يرسمون من مواضع الجمال في العالم ومحاربة كل ما هو شائه عبر تكريس الإبداع الذي يحارب البشاعة التي تجثم على صدور أوطاننا.
وبين الجابري، في حوار خاص مع “ذوات” على هامش أمسية توقيع ديوانه الجديد “فكرة اليد الواحدة” التي أقيمت السبت 6 (يونيو) 2015 في رواق ساقية الدراويش في العاصمة عمّان، أن ما يصنعه الشعراء “بضاعة يتهشم طينها على جدران السياسي الذي عليه أن يعترف بدور المثقف كشريك في تقرير مصائر الأوطان”.
“ذوات” التقت الجابري الذي صدر له حديثاً ديوانه الشعري الرابع عن دار “فضاءات” ويقع في 225 صفحة، خلال أمسيته التي قرأ فيها عدداً من قصائده، وقدمه في الأمسية الإعلامي ممدوح أبو الغنم، كما صاحبه مقطوعات موسيقية للفنان عامر محمد.وكان هذا الحوار:
تتكرر في ديوانك “فكرة اليد الواحدة” في غير موضع مفردات: النوم، الموت، الدم، البرد، التعب..، ما الهمّ الذي يهجس به الجابري في نصوصه؟
لك أن تصدقي أن هذه المفردات تنسل إلى نصوصي دونما قصد مني، وعندما أفرغ من الكتابة وأعيد قراءة ما كتبت بتجرد أشعر كما لو أنني مخلوق لتقديس هذه المفردات؛ لأنها شكلت بطريقة أو أخرى مكونات حياتنا نحن الفقراء الذين كبرنا وكبر معنا هاجس الشعر، وثمة خصوصية عراقية في هذه المفردات يعرفها أبناء جيلي، وكيف كنا نقاسي التعب والبرد برفقة الدم، ونحلم بالسعادة التي يتوجها النوم أو الموت، لقد كنا بسطاء في تطلعاتنا اليومية؛ لأننا كنا أدوات للتمني الذي لا يغادر أسوار صدورنا، ولاشك أن الهم الذي يهجس به الديوان هو كل ذلك في اختصار طويل لاينتهي لتعريف الوطن.
يلحظ القارئ أن تباشير الأمل تلوح في قصائدك، رغم الألم، فأحياناً تلوّن بشعريتك حياة أخرى فيها… فرح وألوان وإشراق شمس..، هل ثمة بصيص أمل يلوح في الأفق رغم اتساع دائرة القتل وطغيان المد الظلامي؟
لست متشائماً على الإطلاق، لكني حزين بشكل أو بآخر، أحاول أن أحارب حزني وأحزان الآخرين بأسلحتي الرقيقة التي لا حول لها سوى تلوين الجدران المحيطة بها بأسباب الفرح، وإن كان شحيحاً، عليّ أن أعيش الحياة بكل تفاصيلها، رغم خوفي على المسرات الصغيرة التي تهديها هذه الحياة لي، وطالما أخبرت المقربين مني عن شعوري بشيء مبتهج في جوفي ولا أعرف ما هو، ربما هو ذلك البصيص الذي تتحدثين عنه، والذي أحاول أن أؤمن به كلما عدت لقراءة تاريخ الأمة بين حين وآخر، رغم ما فيه من خيبات وفترات مظلمة.
الأب حاضر بقوة في الديوان في غير قصيدة، هلا حدّثتنا عن ذلك؟
نعم، هو حاضر كتعبير عن الشعور بالنقص الذي لا أستطيع إخفاءه عن نفسي، فقد توفي والدي بُعَيْد ولادتي بأشهر ومنحني صفة يتيم مكللاً طفولتي بهذا التاج الخالي من الجواهر، ولم يكن الأمر واضحاً في طفولتي وصباي، لكنه غدا أكثر لمعاناً حين صرت أباً، الأمر الذي قادني إلى الخشية على أولادي من أبوة ناقصة أو أبوة ضائعة، تلك الخشية التي تبرز ملامح الأب الذي لايهنأ بحياته قبل أن يرى أولاده نائمين.
الوطن .. في “غرفة الشاعر” جميل.. وأجمله أن “تتجول في وطن مرسوم على أحلام الورق”.. كيف يمكن للشعر أن يحمل هم الوطن، ويؤثر في التغيير الإيجابي الفعال، لينتقل من غرفة الشاعر، وينتشله أيضاً من غرفة الإنعاش وحالة التشرذم التي يحياها على أرض الواقع؟
هي المفارقة التي لا نستطيع التخلي عنها في ما نكتب، أن نتغزل بأسباب عذاباتنا وتشردنا وغربتنا، وأعني بذلك الأوطان، ولأنَّ الوطن في حقيقته الراهنة لم يعد جنة المأوى فليس أمامنا سوى أن نرسمه كما ينبغي له أن يكون ولا أظن أن الشعر والشعراء بقادرين على انتشال الوطن من حالة التردي التي يعيشها إلا من خلال ما يرسمون من مواضع الجمال في العالم ومحاربة كل ما هو شائه من خلال تكريس الإبداع الذي يحارب البشاعة التي تجثم على صدور أوطاننا، الشعراء ليس بوسعهم سوى صناعة الجمال لكنها مع الأسف بضاعة يتهشم طينها على جدران السياسي الذي عليه أن يعترف بدور المثقف كشريك في تقرير مصائر الأوطان.
ربما يشير عنوان “فكرة اليد الواحدة” إلى الجهود الجماعية التي يجب أن تبذل في التغيير فـ “اليد الواحدة لا تصفق” – كما يقال – أخبرنا عن الفكرة والعنوان.
عنوان المجموعة مقترح من صديقي القاص والأكاديمي الدكتور لؤي حمزة عباس، وهو مستلٌّ من قصيدة قصيرة أقول فيها :
” أشبك يداً بيد
حين أكون عاطلاً عن العناق
في محاولة للوصول
إلى فكرة اليد الواحدة “
وقد وجدت فيه ضالة التأويل التي تثيرني، عندما أختار عناوين قصائدي وكتبي، وهو عنوان مضلل يمكن لأي شخص أن يحلق به إلى طبقات سامية من التأويل أو يسفّ به إلى أدنى المعاني المتداولة.
بعيداً عن الشعر … من بين الهموم الوطنية والإنسانية التي يجب أن يتصدى لها المثقف مساهمته في منع تدمير الإرث الحضاري الذي تعرضت له أماكن تراثية في غير مكان من الوطن العربي، العراق، سوريا، اليمن ..
عن العراق تحديداً هنا، كيف تشخص استمرار هدم وتدمير الأماكن التراثية، بسبب النزاعات والحرب من جهة، وبفعل ما اقترفه تنظيم “داعش” مؤخراً مرة أخرى، وأين المثقفون خصوصاً، والناس عموماً من هذا الفعل الذي يهدد إرثنا وهويتنا.
لكي نفهم ما يحدث، علينا أن نتوصل إلى ما يعنيه هدم وتدمير التراث لدى من يقومون بهذه الأفعال الشنيعة، وهل ما يقومون به له دوافع من الشكل المتطرف للدين، أو هو نوع من السادية التي يقترفونها بقصد جلب الانتباه إليهم، هل هو فعل منظم تقف وراءه دول ومنظمات لها مصلحة في ما يحدث، أم إنه فعل همجي لايحمل معنى سوى الهدم، لقد تعرضت الرموز التراثية وبيوت العلم والمكتبات في العراق إلى أكثر من محاولات طمس وتدمير عبر العصور، وكانت أسباب ذلك معروفة لدى المؤرخين، وكانت تندرج في التباين الحضاري بين العراق وبين الغزاة الذين تمكنوا من الوصول إلى نقاط الضوء في تاريخه، وحاولوا الانتقام من النقص الذي يغشي أرواحهم عبر حرق وتهديم وإغراق تراثه، لكن في حالة (داعش) يبدو الأمر مختلفاً، لاسيما وأن وسائل القتل مختلفة عما سلف، وأسبابه لم تعد عسيرة، كل ذلك يجعلني أكرر سؤالك ذاته (أين الناس عموماً) من هذه المجازر إذا ما عرفنا أن كل ما تهدم من مواقع أثرية وحضارية تعني كثيراً لدى المنظمات العالمية التي تعنى بالتراث، المثقفون فعلوا ما استطاعوا بوسائلهم المتاحة، ولكن أين هي الآذان التي تسمع فتجيب؟!

الجابري الشاعر، مترجم، فقد ساهمت في ترجمة العديد من النصوص الإبداعية والدراسات النقدية، كيف تعاين واقع الترجمة عربياً، خصوصاً تلك التي تعرف الآخر بالجانب المضيء بمسيرتنا على كافة الأصعدة بدلاً من الاعتماد على الصورة النمطية المشوهة التي يحاول البعض تكريسها. هل ما زالت الترجمة “من وإلى العربية” قاصرة في هذا المجال، سيما أنها تشكل جسراً بين الحضارات المختلفة.
لست أزعم أني مترجم ولن أتجرأ على ذلك، فأنا أقرأ وأترجم لأصدقائي ما أراه لائقاً بجمال التلقي لديهم، أترجم ما أرى أنني أول من قرأه وترجمه في محاولة لمكافأة نفسي، وأرى أن الترجمة في البلاد العربية خاضعة كذلك لشروط العرض والطلب في سوق الكتاب، وحتى لو ارتضينا هذه الحالة كمؤشر حسن، فإننا سنصدم حين نعرف التباين الكبير بين ما نقوم نحن بترجمته وضآلته قياساً بما يتم نشره في العالم من كتب، ولو أضفنا إليه بؤس الترجمة لبعض الكتب التي يتصدى لها من هم ليسوا أهلاً لهذه المهمة،
لتبقى لدينا عدد قليل مما هو صالح لوضعه في رفوف معرفتنا، وتبقى هناك رموز عربية في مجال الترجمة، تشكلت على يديها وتبلورت رؤانا المعرفية، ولا يبدو هناك مؤشر مثير للهيبة فيما يتعلق بترجمة الكتاب العربي إلى لغات أخرى.

ماذا يقول عبود الجابري للقارئ عن نفسه .. عملك، هواياتك، مشروعك الذي تتوق لإنجازه؟
لا أهتم بتعريف نفسي سوى أنني من العراق، ولدت عام 1963 وتدرجت في حروبه بعد أن أنهيت دراستي في جامعة بغداد، وحصلت على بكالوريوس في علوم التمريض عام 1985، وصلت الأردن في نيسان 1993 وقررت البقاء فيه بعد أن ربطتني علاقة حب بالجميلة شادية أبو عماشة تكللت بالزواج، أعمل في مستشفى الأردن منذ عام 1996 رئيسا لقسم الباطني الجراحي، هواياتي كثيرة رغم عدم قدرتي على ممارستها، منها سماع الموسيقى والغناء وربما أدرجت النوم من ضمن هواياتي، والبرم بالتفاصيل اليومية للحياة كذلك، لي ثلاث بنات وولدان أصغرهم بعمر الثامنة، أما عن المشاريع فحدثي ولا حرج، لكن مشروعي الأساسي شعري يتمثل في اجتراح قاموس شعري يخصني وحدي وكتابة نصوص صالحة للقراءة في كل الأزمان.
“ذوات” انتقت من ديوان “فكرة اليد الواحدة” بعض المقاطع الشعرية للجابري، الذي صدر له “فهرس الأخطاء” 2007، “يتوكأ على عماه” 2009، “متحف النوم” 2012.
(1) أزحف كي لا يسقطوا من جيوبي
أين أذهب بأولادي يا الله؟
أولادي
الذين لم يبلغوا عمر الهتافات
عجينة
تختمر برائحة الدم المحلق
في سماوات أيامهم
أين أذهب بهم يا ربّ
هؤلاء الذين اقترفتهم
حين قيل لي:
إن أرضك واسعة
كيف لي أن أعثر عليهم
على أعمار شاسعة
يملأونها باللعب
ويهتفون بسقوط أبيهم
أحزن كثيراً
حين أنام قبلهم
أولئك الذين يركضون في تعبي
بأقدامهم الصغيرة
أحزن
لأنهم ناموا بعدي
وتركوا أغطيتهم
عند أطراف الأسرة
أحزن لخيبتهم
حين يقفون على رأسهم
ويغنون
انهض إلى فراشك
لعلك تنام
كما تشتهي
(1) عتبات من الطين
لم يكن الطين يابساً
لكننا
أختام
تآكلت حروفها
كان علي أن امتحن الطريق
بزلة واحدة
أنهض مثل فارس مكابر
أمسح بقايا الطين عن ملامحي
وأقول للهازئين:
تعودت على محبة الرمل
فلا عجب إن زلت قدمي
في طين لا يصلح للخلق
لسنا من طينة واحدة
قالها الجبل الرخو
حين سقطت الشجرة الوحيدة
من قلبه
كان ينظر إلى الشجر اليابس
منتصباً في قلوب الجبال
ويتلمس أعضاءه
كمن يريد أن يكتب عتاباً
إلى الله
(2) جغرافيا ناقصة
ليس جهلاً بالجهات
لكنها رداءة الجغرافيا
التي تنبت في مؤخرة الشمس
في الشمال برد حزين
في الجنوب امرأة تنعى
في الغرب رجل ينصت لامرأة
تنعى البرد الحزين
وفي الشرق بقية من الشمس
هي ذاتها الشمس التي تنبت في مؤخرتها
الجغرافيا الرديئة
أقول للقلب:
كف عن الدوران مثل طواحين الهواء
ما دمت لن تنجب الكهرباء
وما دام “دون كيشوت” يمر عليك كل صباح
ويهزّ يده ساخراً
كفّ عن تلك التمارين الشاحبة
في تقليد غناء البحارة
عليك بالعودة إلى أناشيدك المدرسية
إلى اللثغة القديمة
إلى النسيان الحارق
إلى اشتقاق المدن من الرمل
الجغرافيا ليست رديئة لأنها أم التضاريس
لكنها أم الوحل الذي يلوث ملابسنا
حين نتسلق أو ننحدر
وهي المسافات
التي تمحنا صوراً مصغرة جداً للحنين
الجغرافيا غرفة مكتظة بالأحذية
تنبت في مؤخرة العاجز
______
*ذوات

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *