قصتان .. نقوش قديمة تنزف


*أسامة السعيد
خاص- ( ثقافات )

حياة وموت

صورة
فاجأني الطبيب الذي يتابع حمل زوجتي
بتلك الصورة المعتمة عبر شاشة “السونار”
قال بحياد مقيت وبلا أي انفعال: هذا طفلك!
دققتُ النظر..
مجرد بقعة بيضاء في محيطٍ داكن..
أعطاني صورة ورقية لتلك البقعة البيضاء
تأملتُها طويلاً لعلي أتبين ملامح ذلك الوافد الجديد،
لم أر شيئا..
لكنني وضعت تلك الصورة قبل النوم في ألبوم العائلة.
تجربة
عشتُ سنواتٍ أخشى البحر..
أتذكرالاندفاعة الأولى وأنا أرى تعانق الرمال والأمواج..
شعرتُ أنني أعرفها منذ سنوات..
رغم أنها تجربتي الأولى..
اندفعتُ أحتضن البحر..
وبلغ الإندفاع مداه..
وفجأة….
شعرت أنني وقعت في هاوية..
أقدامي لا تلامس شيئاً..
ذراعايا الضعيفتان لا تستطيعان حملي..
فتحت فمي أطلب النجدة..
فامتلأ بالماء المالح.. والصمت!
من يومها، وكلما احتواني البحر..
أخشى مذاق الفقد..
أخافُ أن تفقد قدماي إحساس الرمال..
وبات بيني وبين الموج نوع من انعدام الثقة،
رغم أنني صرتُ أجيدُ السباحة!

ثروة
أحكمت قبضتي على الخمسين جنيها..
تحسستها من خلف قماش القميص وهي قابعة في جيبي..
أول أجر أتقاضاه في حياتي..
طوال الطريق إلى البيت وأنا أشعر أنني أغني إنسان في العالم
أحلام كثيرة راودتني بما يمكن أن أشتريه
اشتريت ألبوماً غنائياً لماجدة الرومي..
ومن يومها كلما استمعتُ لصوتها
أشعر كم أنا ثري؟!

لقاء
ابتسمتُ في وجهه..
صافحتُه..
احتضنتُه..
ربت على كتفي..
وطال العناق..
لم نلتق منذ تخرجنا في الجامعة..
كان من أعز أصدقائي..
انسالت الذكريات..
امتد الحديث لساعات..
افترقنا على وعد باللقاء
ماذا كان اسمه؟؟!


زمن
وقفتُ طويلا في المرآة أتأمل أول شعرة بيضاء تنبت في رأسي،
وأنا ما زلت ابن الرابعة والعشرين..
الآن وبعدما صار لتلك الشعرة البيضاء عائلة كبيرة في رأسي..
أقف أمام المرآة – بلا جدوى- طويلاّ،
علني أستعيد صورة تلك الشعرة البيضاء عندما كانت وحيدة.

بيت
دفعتُ سنوات العمر لأشتري بيتاً أحيا فيه إلى أن يزورني الموت…
بعد زمن أدركتُ..
أن الموت هو الضيف الوحيد الذي لا نستقبله في غرفة الاستقبال….
ولا يستهويه الأثاث الفاخر.
ولا يمتلك وقتاً لفنجان قهوة!

موت
على حافة جسر النهر وقف يراجع حياته…
لم يجد شيئا ليتذكره في تلك اللحظة..
كل شيء خواء..
جميع ما مضى عدم.
المارة في الطرقات لا يرونه وكأنه شبح..
وهو أيضا كان يراهم أمواتاً يملأون الطرقات…
في تلك اللحظة بالذات قرر أن يعود إلى الحياة…
بعد ساعات وجدوه ميتا في فراشه.
شهادة الوفاة سجلت أن الموت وقع قبل ثلاثة أيام!

نقوش قديمة تنزف

قادني القدر والعمل إلى ذلك المكان، على مدى الرحلة الطويلة بالقطار وأنا أتحاشى التفكير ذلك الأمر، أحاول التناسي، أقلب في أوراقي، أستعرض وثائقي، كي أهرب من ذاكرتي.
تمضي الساعات بطيئة وأنا أسير ذاتي، تحملني اهتزازات القطار والصور المطمورة بداخلي نحو مرفئها القديم، فالصحافة علمتني الصبر، لكنها لم تعلمني بعد كيف أتحاشى الذكريات؟!
ساعات طويلة لكنها انقضت، وصل القطار إلى هدفه وكذلك أنا، قادم لكتابة تحقيق عن غرق معبد الكرنك في المياه الجوفية.. استقبلني شخص قدم نفسه إلىّ على أنه من العلاقات العامة بالمدينة، رحب بي بصورة مبالغ فيها، ربما ليخفي ضيقه بمجيئي، وطوال الطريق إلى فندق إقامتي ظل الرجل اللزج يتحدث، ولم أسمع شيئاً مما قال فقد كنت مشغولاً بتفقد الطريق وكأنني أراها للمرة الأولى، أو كأنني أبحث عن شيء ضائع جئت كي أعثر عليه.
في الصباح كنت في الكرنك أتفقد الجدران التي تخنقها المياه ببطء، ما إن عبرت طريق الكباش حتى انفجرت الذكريات، توقعت ذلك لكني لم أتوقع سرعة الانفجار ولا شدته.
كنا معاً أنا وهي، أمسكت بيديها ودخلنا إلى المعبد، كنت أبحث عن ذلك التمثال الذي قرأت أنه ما يزال مجهول التاريخ رغم روعته الفنية، الرجل يقف شامخاً وبين قدميه تقف محبوبته في خضوع وكبرياء.
سارعت هي بسؤال المرشد المصاحب لوفد كليتنا عن هذا التمثال، فأشار في اتجاهه، طارت إليه، وصلت قبلي، وأنا ألاحقها كعباد شمس بعيني.
وقفت في خشوع تتأمل التمثال، قالت إنه رائع، هززت رأسي بالإيجاب، قالت: الرجل يشبهك، فقلت: لكنك أجمل من محبوبته.
ابتسمت في حياء، أمسكت بيدها واقتربت لأقطف من شفاهها فاكهة الجنة، لكن صوت المرشد السياحي الذي سبق ظهوره داهمنا، كان يحكي قصة التمثال المجهول، حتى الآن لم يعرف صاحبه على وجه التحديد، لكن المؤكد أنه يخلد قصة حب رائعة.
نظرت إلىّ في براءة وقالت: إنهما نحن، هو أنت، وهي أنا، فشعرت بقلبها ينبض في كفي.
أشار موظف العلاقات العامة إلى بعض العمال في ركن بعيد وقال إن المدينة سارعت على الفور إلى إنقاذ هذه الثروة التاريخية من المياه الجوفية، وفي لهجة خطابية أخذ يواصل وأنا لا أسمعه، توجهت بغير إرادة إلى الاتجاه الذي أشار إليه فكان بهو الأعمدة، أخذ زميلي المصور يلتقط صوراً أسمعها من صرخات الكاميرا، وبينما الموظف يرشده إلى جهود المدينة في الإنقاذ، توجهت أنا إلى مكان أعرفه جيداً.
بمجرد أن عدنا في المساء إلى معبد الكرنك لمشاهدة عرض الصوت والضوء، جرت وانفلتت كفها من بين يدي، اجتذبها الضوء كفراشة فلبت النداء.
وبينما وقفت صحبتنا تستمع لبداية العرض، كانت هي تقف وحدها تدور وسط بهو الأعمدة، وظلها يراقص أرض المعبد العتيق، الضوء الخافت يجعلها حلماً، تقفز من خيالي لتقف أمامي فاردة ذراعيها وهي تدور متغنية بأغنية عشقناها معاً ” شايف السما شو بعيدة، بعد السما بحبك”.. لم أتمالك نفسي، احتضنت حلمي كي لا يفلت مني ثانية، همست وهي بين أحضاني:
– ألا تخشى التاريخ.. ألا تخاف أجدادك؟!!
اقتربت منها أكثر حتى بدت شفتيها كسراج منير، وقلت:
لو كان أجدادنا معنا الآن لباركوا حبنا، وربما سبقنا جدانا الواقفان بباب المعبد منذ آلاف السنين إلى ما نفعل.
أغمضت عينيها فارتويت من شهدها، أفقنا بعد لحظات الذهول، بدا وجهها كزهرة حمراء خجلى.
كانت أول قبلة.. وأخرها
نظرت إلى العمود المجاور وتأملت نقوشه، قالت يبدو أن أجدادنا معنا بالفعل، أشارت بأناملها الرقيقة لبعض الرموز الهيروغليفية التي تشبه الشفاه، ورمز آخر يشبه القلب، لمست يدها واحتضنت كفانا النقوش، وقبل أن أسمع نفسي وأنا أردد كلمة أحبك، كانت صوتها يغمرني بنفس الكلمة، أغمضت عيني وحلمت بأشياء لم تأت أبدا.
فتحتُ عيني على صوت أحد حراس المعبد بينما كانت يداي تتلمس موضع أنامل حانية افتقدها منذ سنوات.
يبدو أن هذه الأعمدة التي احتفظت بآثار آلاف السنين قد عجزت عن أن تحفظ لي ذكرى جئت أبحث عنها.
جاء الصوت لينبهني لوجود المصور وذلك الموظف اللزج عند البحيرة المقدسة.
سألت الحارس الأسمر ذا الملامح السمراء الدقيقة عن المياه والمعبد، فأجاب بلهجته الصعيدية العميقة، لكن دمعة واحدة أحرقت عينيه لخصت الكارثة، كانت دمعة الرجل أقوى من آلاف الكلمات، فالرجال هنا لا يبكون مهما ثقلت المصيبة، وقد بكى الرجل!
جرت هي نحو البحيرة، جلستُ إلى جوارها، لم أرها يوماً أجمل من تلك اللحظة، أضواء المعبد المنعكسة على وجه البحيرة المقدسة، وعلى وجهها جعلتهما تتألقان في بهاء ساحر.
طال صمتها، فسألتها ماذا بك؟ أشارت إلى صورتنا المنعكسة على صفحة الماء الراكد، قالت: هل تعرف فيما كانت تستخدم هذه البحيرة؟
قلت: كان الكهنة يباركون الفرعون من مائها عند توليه الحكم، ويقضى فيها الفرعون مع مليكته أوقات الاسترخاء، يطوفون فيها بمركب صغير ترفرف حولهما أغاريد المطربات ووثبات الراقصات.
قالت: أحلم أن أقضي عمري معك في مركب صغير فوق سطح الماء!
نظرتُ في عينيها فوجدت سحابة دمع تتجمع، وقبل أن أسألها نثرت أوراق وردة حمراء فوق صورتنا على الماء.
نظرت إلىّ فوجدتني محدق بعينيها والسؤال ينساب على وجهي، انسكبت نظرتها على ماء البحيرة ومدت كفها ورشتني بالماء، وقبل أن أفيق كانت قد جرت لتستقر في مقعدها تتابع بقية فقرات الحفل الذي أوشك على البدء، وبينما أقوم لاتبعها نظرتُ لأوراق زهرتها الدامية المنثورة فوق صورتنا المهتزة على صفحة البحيرة.
أشار مسئول الآثار المشرف على المعبد إلى ساعته وقال إن عرض الصوت والضوء يوشك على البدء وقد استغرقنا الوقت أثناء التجوال بأرجاء المعبد وأنه يجدها فرصة مناسبة للتخفيف من حدة يوم شاق، حاولت الاعتذار لولا أن وجدت ميلاً لدى زميلي المصور حرص على إخفائه إلا أنه فشل.
لم أجد مفراً من الموافقة على غير رغبة لدى، فقد شاهدت هذا العرض منذ سنوات، أعرف أنه لم يتغير، لكن أشياء كثيرة مصاحبة للعرض كانت قد تغيرت!
بأقدام مرتعشة تقدمت لأجلس في مكان أعرفه جيداً.
أوصلتني قدماي بخطوات مثقلة على دربها لألقي بجسدي الحائر على جوارها.
الأسئلة تتزاحم على عقلي فتغوص به في حيرة خانقة، أوشكت أن أسألها فبادرني العرض وبدأ قبل أن أبدأ.
تشاغلت هي بالعرض، بينما انشغلتُ بأسئلتي المؤرقة.
الصوت رخيم، رنان، وكأنه يخرج من بين أضلع تلك الأعمدة الحجرية، أو كأنما يتردد من آلاف السنين، يجوب الكون كله ثم يأتي ليستقر في أذنينا. كانت قصيدة حب، أقدم قصيدة عرفها التاريخ، من حبيبة إلى حبيبها الجندي الذي غيبته عنها الحرب، وغابت عنها أخباره، لكنها لا تزال تنتظره كل صباح، القصيدة التي نقشت حروفها على جدران المعبد كانت تهمس “أشكو إلى الليل ونجم السماء.. من لون الحب بلون الدماء؟!”
توالت الأبيات، لابد أنها نفس الرموز التي قرأناها سوياً في بهو الأعمدة، وبين الوجود والعدم، التفتُ إلى سر وجودي، دليل حياتي المستقر بجانبي، وبلا وعي مددت يدي أبحث عنها، فلم أجدها، كانت يدها تتلقى دمعة أمطرتها العيون التي ثقلت عليها سحب الغمام الحزين!!
كانت صحبة الوداع هي نفسها صحبة الاستقبال، نفس الموظف اللزج الذي ظللت لا أذكر اسمه حتى نهاية الرحلة، ارتميت في باطن القطار العائد إلى القاهرة حيث الصخب والضجيج عله ينقذني من صخب الذكريات الذي انفجر في أحضان تلك المدينة الهادئة.
تحرك القطار وتحركت الشجون، فتحت حقيبتي، أعيد ترتيب أوراقي، هبت ريح من شباك مجاور، عصفت بالأوراق، تمسكت بقوة بما في يدي بينما تطايرت أوراق أخرى أخذت ألملمها، فتذكرتُ أوراقا عصفت بها ريح الحياة منذ سنوات لم أستطع حتى الآن أن ألملمها.
وصلت إلى القاهرة، ألقيت بنفسي في أمواج العمل التي لا تنتهي، أخرجت أوراقي المدفونة في جوف حقيبتي، كانت لا تزال تحمل رائحة المعبد والبحيرة والقطار.
أخذت اكتب سطورا عن جدران المعبد التي تغتالها المياه الجوفية، وتمنيت لو أستطيع الكتابة عن جرحى المنقوش على جدران القلب وما يزال ينزف!!
_________
*قاص وروائي مصري، نشرت له مجموعتان قصصيتان بعنوان “عورة مكشوفة”، و”هيت لك”، وفازت روايته الأولى “رواق البغدادية” بجائزة الشارقة للإبداع العربي في دورتها الثامنة عشرة (2014-2015)، كما نشر له عديد من النصوص القصصية في الدوريات الأدبية المصرية والعربية.

شاهد أيضاً

طه درويش: أَتكونُ الكِتابَة فِردَوْسَاً مِنَ الأَوْهامْ؟!

(ثقافات) طه درويش: أَتكونُ الكِتابَة فِردَوْسَاً مِنَ الأَوْهامْ؟! إلى يحيى القيسي لَمْ نَلْتَقِ في “لندن”.. …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *