تفكيك العنف ثقافيًا


*فاضل السلطاني

يخطئ من يعتقد أن العنف يكبح العنف. وإلا لاختفت هذه الظاهرة الموغلة في تاريخ البشرية منذ أمد طويل. نعم، إنها تكاد تختفي في المجتمعات المتطورة، بعدما ابتليت بالعنف الذي عرف أسوأ تجلياته في صراعات داخلية، طائفية واجتماعية، وحروب مدمرة دامت حقبا طويلة من القرون الوسطى وحتى فترات قريبة. لكن ذلك لم يتم إلا بعد أن حكّمت هذه المجتمعات منطق العقل في محاربة العنف، عبر تفكيك آلياته، ومحاكمة منطقه، فاتحة بذلك مساحات اجتماعية وفكرية واسعة شكلت أرضية مناسبة لبناء ثقافة إنسانية أفقية شملت كل نواحي المجتمع وقطاعاته المختلفة، مما ساعد على تهذيب الغرائز المنفلتة، والنزعات العدوانية التي قد تكمن في كل واحد فينا.

العنف كان ولا يزال موجودا في كل المجتمعات، كما في أعماق كل فرد، مثله مثل أية سمة إنسانية أخرى، لكن إنتاجه وإعادة إنتاجه يعتمدان على شروط معينة، إما أن تغذيه فينفجر، أو تروضه وتنزع عنه وحشيته وقبحه «وتعقلنه»، إن صح التعبير.
نعتقد أنه آن الأوان للبحث عميقا في أسباب العنف الذي وصل إلى درجة مريعة، خارج التصورات المطروحة التي تنحصر في بضع رؤى أساسية: انتعاش الحركات الأصولية وتحديدا بعد الثورة الإيرانية، ضراوة القمع الذي تمارسه السلطات الرسمية ضد أي خطاب مخالف، مما يقوده إلى انتهاج أساليب عنيفة لإثبات وجوده، أو الإعلان عن احتجاجه بطريقته الخاصة، واستحكام الحلقات العتيقة المتخلفة في التراث الإسلامي، حسب تعبير محمد أركون، ومناهج التعليم، إضافة إلى «صدمة الحداثة ودخول عناصر الحضارة والمدنية الغربية من الأبواب الخلفية» إلى مجتمعاتنا المتخلفة، كما يفسر البعض، مما زعزع بناءنا النفسي والاجتماعي، كما يذهب البعض.
وبالطبع، لا يمكن إلغاء أي من العوامل السابقة، وفصلها عن بعضها البعض في تفسير ظاهرة العنف، ولكننا لا نعتقد أنها العوامل الأساسية. وكثير منها يمكن إدراجه ضمن موضوع التخلف، أكثر مما ينتمي إلى ثقافة العنف، فالفرق بينهما كبير.
علينا العودة إلى ما قبل ذلك؛ مراجعة الأصول وما أنتجته من رؤى وتصورات ومنظومات فكرية يريد المتطرفون تطبيقها بالقوة. وبغير ذلك سنبقى ندور في الحلقة الشيطانية ذاتها. وهذه هي مهمة مراكز البحوث، والباحثين والمختصين العاجلة.
الإرهابي، كما يقول د. إبراهيم الحيدري في كتابه «سوسيولوجيا العنف والإرهاب» الصادر حديثا، لا يولد بالضرورة إرهابيا، وإنما يصبح الإرهابي كذلك بفعل عوامل كثيرة اجتماعية واقتصادية وعقائدية وسياسية. ولذلك فالإرهاب هو صنيعة من صنائع المجتمع، حيث يعيش الإرهابي حالة نفسية وأفكارا متطرفة يعتقد بها إلى درجة الهذيان. فهو يكفر ولا يفكر، وذلك بسبب ثقافة العنف وحملات التحريض الديني وغسل الدماغ.
وإذا لم تتبنّ الحكومات العربية برامج شاملة فورية مبنية على توصيات الباحثين والمختصين، وتعلن حالة طوارئ، ليست أمنية، بل ثقافية بالدرجة الأولى، سيتناسل العنف عن عنف آخر، وسيستولد الإرهاب إرهابا، وسنبقى ندور حول أنفسنا إلى أمد قد يطول أكثر مما ينبغي، وسيظل العنف، كما يقول أحد المفكرين، «ماكينة التاريخ»، تاريخنا العربي في الأقل.
________
*الشرق الأوسط

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *