الحكواتي: ماخور مكسيم



*دنيس أسعد
خاص- ( ثقافات )

عندي عدة مسارات للمشي في حيفا- لجوء أهلي ومدينة طفولتي وشبابي-؛ منها مسارات جبلية في تلال الكرمل المحاذية لعمارة شقتي ، والأخرى ساحلية على شط بحر شرفتي ، أختار منها ما هو ملائم لمزاجي كل يوم.
إحدى هذه المسارات المميزة ، مسار المشي بمحاذاة الشاطىء الموازي لشارع حيفا يافا الرئيسي. أنزل من التلة الكرملية حيث تقع شقتنا في حي “واد جمال” واصل مباشرة لشط “تل السمك” وهو موقع تاريخي لآثار رومانية ويقع بقربه معهد الدراسات البحرية القطري. منه أسير جنوبا لـ”شط العزيزية” الذي سمي بهذا الاسم نسبة لمالكه عزيز الخياط الذي كان ينتمي لإحدى أغنى العائلات الفلسطينية في حيفا.

في طريقي أمر بـ”شط مكسيم”، وسمي هكذا، بسبب قربه من مطعم شرقي اسمه “مكسيم ” (أكله سيء جدا ولكنه ملائم للإسرائيلين الذين لا يفهمون كثيرا بالحمص وورق الدوالي والتبولة وما شابه)،أما لماذا سمي المطعم بهذا الاسم لا اعرف ، لم أفكر يوما أن أسأل وأستفسر إن كان على اسم الكاتب الروسي مكسيم غوركي أو أنه على اسم أحد مالكي المطعم الفلسطيني أو الإسرائيلي.
قبل 20 عاما، انتقلت إلى هذا المكان بائعات الهوى( الأغلبية إسرائيليات وقلة نادرة من الفلسطينيات ) من البلدة القديمة بمحاذاة الميناء ،وصار اسم مكسيم مرادف للماخور وعرف في حيفا خاصة عند الشباب “ماخور مكسيم”، يزوره الرجال من مختلف الملل والطوائف بدون تمييز، وقد تلاقي هناك؛ خاصة في ساعات المساء رجالا من اليهود المتدينين المتزمتين إلى جانب شباب فلسطينين محرومين.

في الرابع من تشرين الثاني 2003 ، خلال الاجتياحات الإسرائيلية الوحشية على مدن الضفة وغزة، والمواجهات التي رافقتها بين المقاتلين الفلسطينين والجنود الإسرائيليين خاصة في مخيم جنين، قامت الفدائية هنادي ابنة 26 عاما،ابنة مخيم جنين، بعملية انتحارية في وسط مطعم مكسيم ومات نتيجة التفجير 21 شخصا من زوار المطعم ومن العاملين من فلسطينين ويهود.
بعد هذا التاريخ منعت الشرطة بائعات الهوى من العمل في منطقة المطعم ، الذي تم ترميمه وعاد الرواد الإسرائيلين إليه لتناول الحمص سيء الصنع والكباب بطعم الكاوتشوك وشرب الكولا، وتمت إقامة نصب تذكاري لقتلى التفجير من فلسطينين ويهود، وأصبح موقع بائعات الهوى جزءً من كورنيش معدا للمشاة وراكبي الدراجات.

اليوم مررت بشط مكسيم وافتقدت بائعات الهوى وحضورهن الطاغي على المكان ، علما إنني كنت أخشى المرور من جانب المكان بسبب مضايقاتهن المستمرة لكل من يمر خاصة من النساء لأننا كنا نزعجهن في قضاء أعمالهن اليومية وكسب رزقهن، وتساءلت إلى أين ذهبن بائعات الهوى يا ترى؟؟
وددت لو أنني اعيش في مدينة ساحلية عادية. مدينة تمارس فيها الدعارة العادية رسميا وليس الدعارة السياسية التي لا تعطي أبدا مجالا للحياة العادية كما في أي مدينة ساحلية في غير مكان من بقاع العالم الواسع بعيدا عن الصراعات الأزلية في بلادي.
____
*كاتبة وحكواتية من فلسطين 

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *