الكتابة والخلود


*أمير تاج السر

في نقاش مع صحافية غربية، ذكرت لي أن معظم من حاورتهم من الكتاب، وسألتهم عن روايتهم التي يعتبرونها خالدة، من جملة أعمالهم، أخبروها بأنهم لم يكتبوا الرواية الخالدة بعد، وأنهم ساعون في كتابتها، ثم سألتني الصحافية شخصيا عن روايتي الخالدة، إن كنت أؤمن بتلك الصفة، وما هي المواصفات التي ترتفع بعمل روائي ما، لتضعه في مصاف الخلود، بينما تظل أعمال أخرى للكاتب نفسه، عادية في نظره، أو حتى أقل من العادية؟

في الحقيقة، دائما ما يأتي الإبداع بأقوال أو أفعال ترافقه، ولا ينجو من ترديد تلك الأقوال معظم الكتاب، لتعتبر أقوالهم في ما بعد، حكما يتناقلها الناس في صفحات التواصل الاجتماعي، أو المدونات، أو توضع مقدمات لتصدير الكتب، وقد قرأت مرة للتركي أورهان باموق، أنه لم يكتب روايته التي تبقى لأمد طويل بعد رحيله، وتكتسب صفة الخلود، على الرغم من أن باموق كتب بشراسة عن بلاده، ولم يترك في رأيي أي قضية يمكن طرحها في عمل إبداعي، إلا طرحها، وتأتي روايته «ثلج»، في مقدمة الروايات التي ناقشت الدين والتدين، والجماعات التي تتبنى الإسلام السياسي، بأسلوب راق لم يسئ ولم يتهجم، لكنه يطرح الأفكار ويناقشها، كما أنه كتب مجتمع أسطنبول وتاريخها وجغرافيتها، في رواية مثل «اسمي أحمر»، وفي كتاب مقالاته الجميل «ألوان أخرى»، ناقش كل ما يمكن إلصاقه بالكتابة، من قوة أو وهن، من جماليات أو قبح، وهكذا، يمكننا اعتبار تجربته، من التجارب المهمة والمتجددة والسائرة بخطوات ثابتة نحو الخلود.
أيضا ذكر كاتب آخر، لا أذكر من هو بالضبط، أن ما فعله طيلة السنوات الماضية، في كتابة الروايات ونشرها، كان مجرد تحمية لأفكاره الحقيقية التي لم تطرح بعد، وينوي طرحها أخيرا. وعلى هذا المنوال دائما ما يفاجئك بين الحين والآخر، من يردد هذا الكلام، بينما تكون تجربته قد مضت وانتهت، خلد منها ما خلد، وضاع منها في النسيان ما ضاع،
السؤال وجه لي، كما ذكرت، وقد رددت على المحاورة، أنني لا أؤمن بتفصيل حظوظ للروايات التي أنتجتها المخيلة نفسها لكاتب ما، وكتبت بالأسلوب نفسه الذي يكتب به عادة، بحيث نلبس عملا ما ثيابا مبهرجة، ونحيطه بقلادات الورد، بينما نترك آخرين جياعا حتى من كلمات الإشارة إليهم، وبالتالي أعتبر بعض أعمالي قد تحملتني أكثر من غيرها، ورضيت بالأفكار المتشابكة التي دلقتها فيها، لكن لن أصفها بأنها خالدة أو غير خالدة، ولن أقول بأنني أنتظر أن يأتي نصي الخالد بعدها.
طبعا من الممكن جدا ألا يأتي للكاتب أي نص بعد نصوص كثيرة، ليصبح خالدا أو غير خالد. أعمالي الشخصية كلها أعمال أعتز بها، وأصادقها وأعود إليها من حين لآخر، لأتذكر أجواء كتابتها، وماذا يمكن أن أضيفه لو أعدت كتابتها من جديد؟ بالنهج نفسه، لم يذكر ماركيز أي شيء عن خلود النص، وإنما تحدث عن نصه المهم في رأيه، وفي ذلك لم يثبت على نص معين، فكان في كل مرة يذكر رواية ما بوصفها أهم ما كتب، وبالتالي كان رائعا في تحيته لنصوصه، وإلباسها الثياب المبهرجة بالتعاقب.
سؤال آخر، للذين يؤمنون بأنهم لم يكتبوا نصهم الخالد بعد، ولهم عشرات النصوص المكتوبة والشهيرة؟
ما هي مواصفات النص الذي يظنونه سيبقى بعد موتهم؟ ومن أين يأتي بعظمته؟
الإجابة هنا لن تكون دقيقة، أو لن تكون مشبعة، لأن التجارب الإبداعية، تبدأ أفكارا صغيرة في ذهن المبدع، وتتطور بعد ذلك، لتنضج، والكاتب يستوحي أفكاره من البيئة التي يعيش فيها، وغالبا ما يكتب خبراته الأولى، في بداياته، ثم يفارقها بالتدريج، ليكتب خبرات أعلى، أو يعتمد على المخيلة، في اقترابه من الواقع وابتعاده. إذن هو يصنع عوالمه، وسيظل يدور في تلك العوالم، يرسم الشخوص ويمحوها، يبني البيوت ويدمرها، ويصيغ المجتمع الموازي، الذي لن يكون غريبا عن مجتمعه كما ذكرت، ومن قراءاتي المتعددة لكتاب من شتى بقاع العالم، لم أجد كاتبا واحدا، شذ عن القاعدة، أي لم يكتب خبراته الأولى، التي تبدأ من الطفولة، لتتلكأ كثيرا في أيام المدرسة الابتدائية، والصداقات التي عقدت، والمدرسين، ومدير المدرسة، والسخرية من مدرس الجغرافيا، والطلاب الأذكياء والكسإلى، ثم فتاة الجيران التي ينتظرها راو ما في طرق الحياة، وطرق النص، ليغازلها، مجتمع بيت الراوي، ثم المجتمع الأكبر، وهكذا، وجدت تلك الخبرات عند باموق، وبول أوستر، وأمين معلوف، وغيرهم، وحتى عن الإندونيسي أندريا هيرتا، الذي كتب رواية عظيمة عن بلاده، اسمها، «عساكر قوس قزح»، ومنطلقا أيضا من تلك الخبرات التي ذكرتها.
إذن هذه هي عوالم الكتابة، التي ستصبح عوالم ثابتة لدى الكاتب، مهما تغيرت الفكرة، وتطرقت لموضوع مختلف في أي كتاب مقبل، وبالتالي لا يوجد كتاب سيخرج منها مسلحا بأدوات يمكن تسميتها أدوات خلود.
الذي كتب رواية «ثلج»، و«الحياة الجديدة»، و»اسمي أحمر»، وأعني أورهان باموق، قد يكتب روايات أخرى، هي رواياته السابقة نفسها مع اختلاف الفكرة، والذي كتب: «حنا وميخائيل»، و»قصة عن الحب والظلام»، وأعني اليهودي عاموس عوز، قد يكتب قصصه العنصرية الجديدة، بالأدوات والملابس والمكياج نفسها، والذي كتب وأبدع سنوات ورحل بعد ذلك، لا يحتاج لمن يجلس ويغربل أعماله، ليقول هذه الرواية خالدة، وهذه يجب إلقاؤها في سلة مهملات التاريخ.
أخلص من كل ذلك، إلى القول بأن الأقوال التي تردد بالترادف مع الكتابة، ولكتاب مشاهير، وأعثر عليها دائما تتنقل في المدونات والصفحات الشخصية، ومواقع التواصل، لا تعني أكثر من كونها كلمات رددت ذات يوم، ومن المفترض أن لا تؤخذ على محمل الجد، والأفضل منها تلك العبارات التي ترددها الشخوص داخل النصوص، فهي أفكار الكاتب الحقيقية.
________
*القدس العربي

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *