مهرجان الفيلم العربي القصير في بيروت


يارا بدر

نظّم «نادي لكل الناس» فعاليّات مهرجان «الفيلم العربي القصير» في دورته الثانية عشر (1-7 حزيران/يونيو 2015) التي تقام كلّ عام في بيروت، جميلة العواصم العربية بجراح حربها الطويلة. لتوائم احتفاليّة هذا العام مشهديّة الجراح العربية، وتقدّم بانوراميّة واسعة لرؤى متنوّعة، متقنة الصنع حيناً، واهيّة جداً حيناً آخر، كما فيلم «حبّة مشمش ومواويل» للبناني فابيو خوري، لكن يجمعها قاسم أساسي هو أنّها رؤى شبابيّة، جريئة في مقاربات مواضيع مُحرّمة بحساسيات وفنيّات تؤكد أنّ ما عاشه العالم العربي مؤخراً، وعلى الرغم من ثمنه الباهظ، لكنه فتح المجال للتفكير بشكلٍ مختلف، للتعبير بشكلٍ مختلف، وربما لقول شيء مختلف.

العنف.. الحرب.. الضحايا ثيمات أساسيّة:

عبر أكثر من خمسة وثلاثين فيلماً قصيراً عربياً من سوريا ومصر ولبنان والأردن وفلسطين، تميّزت احتفاليّة هذا العام بحضور ثيمات العنف، الحرب، والضحايا بشكلٍ مُكثّف، في أكثر من سبعة عشر فيلماً، كمقاربات نتائج وحيوات تأثرت بالحرب أو صنعت الحرب، أو كانت ضحيّة لها، فما أثقل تراث الحرب في لبنان والعراق، وما أمرّه في فلسطين وما أطول سيرورته في سوريا، التي شاركت بثلاثة أفلام لا أكثر من قائمة الأفلام الطويلة المُشاركة، هي «عشاء ليلي» لغفران دراوان و»خط تماس» من إخراج سعيد البطل وغياث حداد، ويتناول عبر (12) دقيقة المسافة الدقيقة بمختلف معانيها (بين منطقتي جوبر والعباسين على تخوم دمشق، بين الموت والحياة، بين الجيشين الحر والنظامي، بين القناص وبندقيته، بين صوتي فيروز والرصاص). الفيلم الآخر هو «أزرق» للفلسطيني السوري محمد نور أحمد- أبو غابي الذي نال مؤخراً جائزة «سمير قصير» عن فئة التقرير السمعي البصري، والفيلم عن «مخيم اليرموك» الفلسطيني المُحاصر في دمشق، عن الموسيقى والأحلام والجوع، ومدته (12) دقيقة أنتج عام 2014. 
بفيلم يتيم شارك العراق، بفيلم جميل كبطله «حمودة» ابن العاشرة ذي الساق الواحدة، بفيلم بطولي لشفافيته وصَنعته كبطليه «حمودة» ووالده الفقير. شارك العراق المنكوب بالحروب منذ زمن الخلافات الإسلاميّة إلى زمن الخلافات الكولونيالية وما بعد الكولونيالية. 
سهيم عمر خليفة المخرج الكردستاني العراقي الحائز جوائز عدّة (من مواليد 1980) يقدّم لنا حمودة ذاك الصغير الشغوف بلاعب كرة القدم الأرجنتيني «ميسي»، يحاول ممارسة هذه الرياضة، لكن ساقه الواحدة تمنعه، ويطرده أصدقاؤه من الفريق. السبيل الوحيد لكسب ودّهم ومعاودة اللعب معهم هو إغراؤهم بمشاهدة مباريات كرة القدم، ففي تلك المحطة السكانيّة وسط القحط الصحراوي يشّح الفرح والكهرباء والإنسانية يطلب الصغير إلى والده إصلاح التلفزيون. الذهاب إلى بغداد على مشقته لرجلٍ نحيل يحمل على ظهره الجهاز القديم عرضٌ لمدينة سكنها الدمار، فعلٌ عادي في مُعظم بقاع الأرض، لكنه في أرض الخراب الحزينة يُكلّف الرجل حياته. رصاصة طائشة من متقاتلين لا يعبأون بهويّة القتيل وأفراحه وأحلامه وهمومه تخلّف الولد وحيداً مع املٍ بأنّ «ميسي» سيحقق هدفاً في مباراة ذاك اليوم. 
القسوّة الحادة كرصاصة عابرة، صدمة الموت وهشاشة الحياة، تمتدّ إلى الفيلم المغربي «حدود» للمخرجين علي الصميلي وكلير كاهن، إلى الفيلم الفلسطيني الوثائقي «Apart» لسامي شحادة عن محمد القطاطي، عازف الأكرديون الذي غادر غزّة عام (1995) للدراسة في الضفة الغربية، ولم يعد يستطيع العودة، وصولاً إلى «صمت» اللبناني لرنا قصيفي عن خليل المُقاتل السابق في الحرب الأهليّة اللبنانية واللقاء مع سامر الذي أرديت عائلته على يدي خليل.
لبنان البلد المُضيف كانت له حصّة الأسد بعدد المشاركات البالغ ثلاثة عشر، بما يتماشى وأهداف جمعيّة «نادي لكل الناس» التي تأسّست عام (1998)، لحفظ التراث الثقافي اللبناني، وإنتاج تزاوج بين الأجيال، ففتحت الجمعيّة الباب أمام كافة الجامعات والمعاهد التي تُعنى بالسينما في لبنان للمشاركة. الأمر الذي طرح سؤالاً حول اختيارات لجنة التحكيم للأفلام المشاركة، فعلى أي أسّس وبأي تطلعات؟
التجريب والتغريب دفتا بوابة عالم سينمائي جديد:
التجريب والتغريب هما علامتان أساسيتان في السينما العربية الجديدة، فمن «عبث» لمخرجه عبد الله زين الدين، الذي يصلح أنموذجاً لسينما لبنانيّة شابة تتعاون مع الجامعات إلى «ما بعد وضع حجر الأساس لمشروع الحمام بالكيلو 375» للمصري عمر السهيري، نجد أنفسنا أمام مفاتيح جديدة، تكسر الرؤية التي كبّلت السينما القصيرة في العالم العربي طوال عقود، باعتبارها فسحة للمخرجين الجدد لتقديم فيلم روائي قصير. اليوم تُقدّم أعمال اشتغل عليها أصحابها مع وعي باستقلاليتها كفن، وبكونها فسحة لاكتشاف أنفسهم وأدواتهم أكثر من كونها مجال عرضٍ وتسويق لهم، لاقتناص فرصة العمل الروائي الطويل. 
إذ وعلى الرغم من الملاحظات على البناء الدرامي لفيلم «عبث»، ومبالغاته في تصوير العنف، الدم، الجثث، وحتى مباشرته غير الجيدة، يبقى الفيلم رسالة قويّة كصرخة اشمئزاز من عبثيّة الاقتتال وتهمّش الانسانيّة. في حين قارب الفيلم المصري أعمال الكبار من أمثال المخُرج والكاتب الإيطالي السياسي المُغتَال بيير باولو بازوليني 1922-1975، باستخدامه للواقعيّة الشعريّة، واللونين الأبيض والأسود بشكلٍ أساسي. والاستعانة بتقنيّة «الصمت» واللقطات الطويلة، كما علّمنا المخرج الروسي أندريه تاركوفسكي 1932-1986، خاصّة أنّ أطول جملة تقال في الفيلم بشكل متواصل هي عنوانه. 
التجريب يمتد كذلك إلى الموضوعات، من الغرق في الأوهام الثوريّة «مغوار عمليّة الكولا» للبناني رضا حريري، إلى موضوعة السجن التي قوربت بأكثر من مستوى في فيلم اللبنانية سينتيا كاسباريان «نفس»، وفي الفيلم المغربي «اللغز» لفداء سباعي. وصولاً إلى موضوعة الجنس التي طرحها بجرأة اللبناني بان فقيه في فيلمه «أسيل وجاد»، وبرؤية أكثر نسويّة اشتغلت على الموضوعة ذاتها سلمى دهيبي في فيلمها «هي، هو، والآخر».
النسويّة والقضايا النسويّة حضرت في الاحتفاليّة ايضاً بفيلمين إماراتيين هما «دون برواز» للين الفيصل و»الجارة» لنيلا الخاجا، ومن المغرب شارك هشام اللادقي بفيلمه «اليد الثالثة»، أمّا المصريّة مايفي ماهر فقدّمت في المحور ذاته فيلم «بهيّة». 
الذاكرة والماضي الذي يرسم الحاضر تشتغل عليها اللبنانية ناتالي ريبز، في شريطها الوثائقي «الهمّة القويّة» عن حياة نجاة والدة سهى بشارة، التي حاولت اغتيال أنطوان لحد، قائد جيش لبنان الجنوبي. ويبقى الفيلم الفلسطيني « With Premedation» لمخرجيه طرزان وعرب ناصر من أبرز الأفلام بحساسيته في مقاربة موضوعة «الدين» بشكلٍ مباشر.
القدس العربي

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *