مستقبل الدراما الرمضانية


*وجدي الأهدل

ككل عام، يترتب على إعلان رؤية هلال شهر رمضان، انفجار يُشبه قذيفة مدفع لعشرات المسلسلات المصرية والسورية والخليجية ولغيرها من الدول العربية، بجانب المسلسلات التركية والهندية والكورية المدبلجة، التي ستشغل عقل المشاهد العربي شهراً كاملاً. 

وأول ما يلفت انتباه المتتبع إلى هذه الظاهرة، هو الاستعداد النفسي للإنسان العربي في هذه الفترة الزمنية، لتلقي وتمثّل القيم والمضامين التي تحملها إليه الأعمال الدرامية.
بسبب الصوم، شيء ما يتغيّر في كيمياء الإنسان المسلم، فنجد الغشاوة المُتأتية عن الروتين اليومي للحياة تخفّ وطأتها، ومساحة التفكير تخلو من بعض الكراكيب الحاجزة، وتصفو روحه أفضل من أي وقت آخر، فيصبح أكثر قدرة على التفاعل الوجداني، ويتزحزح قليلاً عن وجهات نظره الراسخة. إنها قطعة من الدهر مناسبة لإيصال رسائل جمالية وأخلاقية للمشاهدين في الدول العربية.
ما يحدث حالياً، هو فيضان غير نافع، في كثير من الأحيان، من المسلــسـلات التليفزيونية ذات الطابع التجاري التي يكاد يكون مشروعها التنويري غائباً، لأن الهدف الذي تسعى إليه هو التسلية، وأحياناً نرى بوضوح أن الاستسهال مقصود عمداً، بحجة أن العائلة العربية تبحث عن «الاسترخاء» بعد يوم طويل من الصوم!
ينبغي علينا الانتباه بشدّة إلى أن المجتمعات العربية دخلت منذ عام 2011، وبعد ثورات الربيع العربي، في مساق تاريخي مختلف تمام الاختلاف عمّا قبله، يلوح حتى الآن ضبابياً وغير واضح المعالم، والجادات الكثيرة قد تكون مجرد ظلال لا تؤدي إلى شيء..
هذا المشهد العربي «الواقعي» المُنذر بعواقب وخيمة، يحتاج إلى التذكير بالبديهيات، والتأكيد على القيم الإنسانية التي تشمل كل البشر دون استثناء، وإعادة بناء المنظومة الأخلاقية من جديد.
من ذا الذي يمكنه صنع هذا الوعي الجديد؟ ربما سيكون للدراما التليفزيونية دور في العملية، وحتماً حينما تُبث في أوقات مُنتقاة، مثل حلول شهر رمضان المبارك.
يمكن للقطاع الخاص أن يستمر في الإنتاج التجاري للمسلسلات التليفزيونية، وليس مطلوباً إلزامه بمضامين مُوجهة، لكن بالنسبة للحكومات العربية، فقد حان الوقت للتدخُّل، وإنتاج أعمال درامية جادة، تحمل توجهات مدروسة، ويسبقها عمل تحضيري طويل، يشمل استطلاعات للرأي العام، وأوراق عمل عن أزمات المجتمع ومــشـــكــلاتـه وجـــذور اضطراباته السياسية، وورش عمل احترافية، تصيغ في خطوط عريضة المبادئ والمُثل العليا التي على ضوئها سوف يُكتب السيناريو.
إذا التزمنا بهذا النهج «العلمي» في الإنتاج الدرامي، فإننا سنحصل أخيراً على نوعية عالية الجودة من المسـلـسـلات التليفزيونية، تحتوي على مضامين راقية، تحترم عقل المشاهد وتُنمّي فيه نزعة الخير.
علينا أن نفكر في الاستعانة بعلماء الاجتماع والمفكرين، وعلماء النفس وكبار المثقفين، ونخبة من الأكاديميين التربويين، ليمنحونا البذور التي سوف تُعطي ثمارها الطيبة من خلال دراما مبدعة وخلّاقة.
مراكز الدراسات والأبحاث، والجامعات، يمكنها أن تساهم في مد كُتّاب السيناريو بالخلفية العلمية المطلوبة.
الارتجالية والعشوائية في كتابة سيناريوهات المسلسلات، ومزاجية المنتجين، والعمل بآلية الكسب السريع، كل هذه أمور لم تعدْ مقبولة في واقع كابوسي كهذا الذي يعيشه الوطن العربي اليوم.
إن القضايا التي يمكن لكاتب السيناريو أن يعالجها ينبغي ألّا تكون ظرفية، أو ذات طابع مباشر فجّ، لأنها ليست دراما توجيهية، ولا هي عصا للتلقين. كما أنه ليس من حق كاتب السيناريو أن يكون سجالياً، فيقع هو ذاته في الفخ الذي عليه تحذير مواطنيه من الإغراق فيه.
المشاهد العربي بحاجة إلى معالجات أكثر عمقاً، والحفر بحثاً عن الجذور. إحدى المشكلات المزمنة في الجغرافيا العربية هي الطبقية الاجتماعية الوراثية، وإذا نحن أزلنا القشرة الرقيقة من الطلاء المدني، عن وجه الإنسان العربي، فسوف نُفاجأ بمقدار ما يحمله من عنصريات مُتعدّدة ممتدة لا تكاد تُفلت أحداً، سواءً من بني جلدته، أم من الغرباء عنه. هذا وباء الأوبئة، وهو مسكوت عنه، والاقتراب منه محظور، ولذا تمسّ الحاجة إلى معالجته بأكبر قدر ممكن من الشفافية والنزاهة.
تحسين أوضاع المرأة في الريف والمدينة، ومنحها المزيد من الحقوق، من القضايا التي ينبغي أن تحتل رأس الأولويات. ويمكن للدراما التليفزيونية أن تُعدّل وتُغيّر في الرأي العام عن حق المرأة في التعليم والعمل وغير ذلك من الحقوق الأساسية الأخرى، والحقوق الطبيعية التي تساعد – على المدى البعيد- في جعل المرأة العربية ذات شخصية، ناضجة عقلياً وروحياً، لتتمكن من تربية أطفالها تربية صحيحة، فتعكس عليهم قوة شخصيتها وثقافتها وضميرها الحي.
هل سيكترث المشاهد العربي عندما نقدّم له مسلسلات تليفزيونية عن التسامح الديني؟ أظن أن الجواب هو «نعم». لكن ما نخشاه هو أن تتجاوز هذه الـ«نعم» المدى المعقول، فلا يجري التسامح في عرضها!
أعتقد أنه من الواجب أن تحزم الحكومات العربية أمرها، وتتقبّل الفكرة الثورية التي تقول إن الموجة الجديدة من الأعمال الدرامية ينبغي أن تُثير نقاشاً عاماً، ونوعاً حميداً من الجدل في أوساط الناس. بدون هذا التفاعل، لن تكون الأعمال الدرامية الممولة حكومياً سوى مساهمة في استهلاك أوقات فراغ المواطنين.
نحن الآن في معركة أفكار، والفكرة هي التي تدفع الرصاصة للخروج من حجرة النار. وقد ثبت عبر مختلف العصور أن القوة لا يمكنها أن تمحو فكرة.. والحل – ضمن حلول كثيرة طبعاً- هو تكثيف الأعمال الدرامية الجادة التي تُبطل مفعول الفكر الضحل، وتُرسخ في المجتمع أفكاراً مرتبطة بالحضارة والعمران، تُقدّس الحياة المُنتجة، وتُقدّر الجنس البشري ككل.
عن مجلة الدوحة

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *