المحكمة العربية ورد الإعتبار


ظبية خميس*

خاص ( ثقافات )


السلطة أمانة يحكمها الضمير, والقوانين, والمصالح العامة.
الظلم يتنامى مع سوء إستخدام السلطة, ومع التفرد بها,وتجاوز القوانين والحقوق.النتيجة غالبا تنامى الفساد,تغليب المصالح الفردية,إنتشار النفاق,والخوف,وإنهيار المؤسسات والدول رويدا ,رويدا نحو اللا قانون, واللا دولة.
حدث ذلك كثيرا,ويحدث اليوم بشدة,وتسارع,ونتائج وخيمة فى دولنا ومجتمعاتنا العربية,للأسف.وكلما إستبد صاحب القرار بالسلطة,ورفض إخضاعها لمنظومة القوانين والأنظمة التى تحكم سلطته نظريا,كلما إشتد العصف بحقوق الناس فى التعبير والرأى والإختلاف,وربما المطالبة بالحقوق والتغييرات المطلوبة لعدل الميزان.
صاحب السلطة,غالبا,ما يتوه فى مظاهر السلطة,والحاشية المحيطة به,والأصوات والأقلام التى تنافقه.وغالبا,ما يرغب فى تجاوز سلطاته القانونية إلى أبعد من ذلك,وربما السلطة المطلقة التى تتجاوز القوانين والأنظمة والدساتير,ودعوات الإصلاح,ومطالب التغيير,والتنبيهات والإشارات التى تخص المصلحة العامة وحقوق الناس.ولدينا ميراث تاريخى,وطويل,فى عالمنا العربى لأشكال الإستبداد والإنفراد بالسلطة ونتائج ذلك الكارثية من إنهيار الدول,والمجتمعات,ومصاب مثقفين ومفكرين وعلماء وفلاسفة وشعراء أودت بحيواتهم تلك السلطات منذ بدء تاريخنا العربى عبر القرون,وحتى اليوم.
ورغم تنامى القوانين والمواثيق الدولية,وإتفاقيات حقوق الإنسان,والمنظومات التى تكفل الحقوق وتحرر الإنسان المعاصر من إرث طويل للإستعباد والإنتهاكات والإستبداد فى مختلف أرجاء العالم,إلا أن العقلية العربية التقليدية لا زالت تمارس ذلك الإرث المقيت كل ما إستطاعت إلى ذلك سبيلا.سياسة القهر تمارس على مستوى إدارة الدول ,والمؤسسات,والمجتمعات,والأسر,وتجد سبيلها اليوم لتخلق مجتمعات طائفية ,وإقصائية,ومضادة لحقوق المرأة والطفل والعامل والفلاح والإنسان عموما.بل أنه حتى بعض الحركات التى وجدت طريقها إلى السلطة شرعيا,أو بوضع اليد وإستخدام السلاح,تكرس قانون الغاب ,والسلطوية والإستبداد بإسم الدين أو الثورة أو المعارضة بشكل كابوسى كما يتجلى فى الأوضاع فى جغرافية ممتدة,ومضطربة,وقاتلة عربيا وإسلاميا.
كمثقفة وكاتبة ودبلومسية تعمل فى منظمة دولية,وأول سفيرة إماراتية مثلت جامعة الدول فى دولة الهند,و مديرة لعدة إدارات داخل الجامعة العربية من بينها الإدارة الثقافية,وإدارة البعثات والمراكز,وباحثة عملت فى إدارة المرأة,ومركز الدراسات,بالإضافة إلى وظائفى السابقة كصحفية وإعلامية ووظائف رسمية أخرى,واجهت ذلك كثيرا.ودفعت ثمن الإختلاف فادحا ومرارا,معظم الوقت.كما تعرضت للمقايضة ما بين حرية الرأى والتعبير,و بين الإستقرار والعمل وأبواب الرزق.لا مساحة للحوار والتسامح ,بل لا مساحة حتى لإحترام بنود الدستور,وأنظمة قوانين العمل.
الإختلاف فى عالمنا العربي نقمة وليس نعمة.وتتم مواجهته بالإقصاء, والعقاب وقطع الرزق ,وقطع العنق,أحيانا. الإختلاف ليس بابا لفتح الحوار حتى بين الجهات المنوط بها بطبيعة عملها الحوار والدبلوماسية وتجاوز الخلافات ومحاولة حلها.ستقصى من عملك بفصل تعسفي مثلا,وتحاصر عبر جهات عليا تتضامن فى حفظ حقوقها السلطوية ضدك, وتمنع من الكتابة ومن السفر و من العمل , وتهمش حتى تظن أنك لم تعد مواطنا يكفل الدستور حقوقه ,بل مقيم على حدود ترفض دخولك كما في فلم دريد لحام الشهير الحدود,الذى كتبه الشاعر محمد الماغوط.
وقد عشت شخصيا ,عددا من المحن الخاصة بالحقوق وحرية التعبير منذ أول شبابي وحتى اليوم.تكررت المواقف, وتشابهت المواجهات.كان آخرها ما حدث فى عام 2010 م ,وقرار عمرو موسى التعسفي بفصلي من عملي فى جامعة الدول العربية بصفته أمينا عاما للجامعة العربية فى ذلك الوقت.وقد سبق فصلي التعسفى الكثير من القرارات الإدارية المتتابعة فى أشهر قليلة والتي إنتقصت من حقوقي الوظيفية, وحاصرتني متجاوزة النظام الداخلي وأحكام الجامعة العربية الإدارية.ومتجاوزة تاريخي الوظيفي الحافل بتقارير إمتياز الكفآءة, وكذلك وضعي ككاتبة ومثقفة إماراتية عربية تساهم منذ سنوات طويلة فى الحراك الثقافي والإبداعي, وأول مواطن إماراتى يعمل فى جامعة الدول العربية على الإطلاق, وأول إمرأة عربية تعمل سفيرة للجامعة العربية فى الخارج.


ولطبيعة الوظيفة, وبعد أن عجزت عن إستنهاض أي مساندة من سفارة دولتي, ومن الجهات القانونية المصرية, ووالجهات الدبلوماسية العربية الأخرى, لجأت إلى المحكمة الإدارية بجامعة الدول العربية لإنصافي قانونيا, بعد أن أغلقت كل السبل الأخرى ولم أجد من يحميني من سطوة وتجاوز الأمانة العامة لجامعة الدول العربية للقوانين والأحكام التى تنظم عملها بقرارات متلاحقة أساءت إلي وظيفيا وشخصيا.وطالت سنوات القضية القانونية المرفوعة التى تم تداولها من مفوض إلى مفوض ,حتى تم عرضها على المحكمة الإدارية خلال دورة إنعقادها غير العادية لسنة 2015,بجلسة 11-5-2015 فى الدعوى المقامة رقم 8 لسنة 45ق من قبلى ضد الأمين العام لجامعة الدول العربية بصفته.و كم أسعدني وأسعد عدد من الناس أن أنصفتني المحكمة الإدارية, أخيرا,بعد أكثر من خمسة أعوام على الفصل التعسفي الذى تعرضت له,ومصادرة الحقوق, والتنكيل الوظيفي الذى كنت عرضة له.وأثبتت المحكمة الغدارية بتداولها للدعوى وبحكمها أنه لا يزال للقانون اليد العليا وإن إحقاق الحقوق ممكن مهما وصلت درجة الخصم وإمتيازاته السياسية والخاصة بالسلطة,عموما.وقد مثلنى المحامى السيد محمد المحلاوى,مشكورا,أمام المحكمة التى تشكلت من عدة جنسيات عربية لقضاة وقانونين :المستشار فريد نزيه ناغو, والمستشارة بن رزوقى فافا, وبرئاسة المستشار نجيب ماجد الماجد وكيل المحكمة,وحضور مفوض المحكمة المستشار عبد المجيد العوانى وسكرتارية السيد محمود ثروت هيكل.
لم يكن حكم الحكمة,فقط,هو ما أنصفن , بل تفاصيل الوقائع والردود القانونية و التذكير بالنظام الأساسى لجامعة الدول العربية والإجراءات القانونية التى تم تجاوزها فى حالتي , وفيما تعرضت له قبيل قرار الفصل,وبعده.
حكمت المحكمة بقبول الدعوى شكلا ,وفى الموضوع بإلغاء قرار الأمين العام لجامعة الدول العربية المطعون عليه رقم 143/1 لسنة 2010 م,فيما تضمنه من فصل المدعية من الخدمة و ما يترتب على ذلك من آثار على النحو المبين بالأسباب-وبرفض ما عدا ذلك من طلبات,وإلزام الأمانة العامة بالمصروفات والأتعاب,والأمر برد الكفالة.
صدر هذا الحكم وتلى علنيا عن هيئة المحكمة المبينة بجلسة 11-5-2015 من طرف الهيئة المبينة.


وقد تعرضت لمواقف غرائبية فى سنوات قضيتي المرفوعة فى المحكمة الإدارية من قبل محامى الأمانة العامة للجامعة العربية, الذي إدعى بأنني غير موظفة بالجامعة رغم عملي فيها لمدة تسعة عشر عاما, وطعن فى تعييني وإدعى أن سفارة الإمارات الحالية تنكر ترشيحي للوظيفة فى عام 1992م , بدون إثبات يعزز ذلك, كما تم إرسال مذكرة فى شهر فبراير من عام 2015 , من قبل المحامى المتعاقد مع جامعة الدول العربية يطالبني فيها بالحضور لجان مسائلة دون تحديد موضوعها ودون كونه ذو صفة ليخاطبني , وذلك بعد فصلي التعسفى من عملى بخمسة أعوام, ودون إستناد إلى أى من أحكام النظام الأساسى ,أو القانون,او حتى البديهية التى لا تسمح له بمخاطبتى ومسائلتى لأنه غير ذى صفة ولأننى كنت خارج العمل,ولأنه ليس هناك قضية للمسائلة.ومثل هذه الأمور ردت عليها المحكمة وفصلت حين ناقشت ووثقت ردودها للوقائع فى حكمها تفصيليا خلال خمسة عشر ورقة قانونية.
وقد ردت المحكمة على إدعاء المحامي بعدم الإختصاص للمحكمة الإدارية فى القضية المنظورة , وذكرته بأن النظام الأساسى للمحكمة الإدارية لجامعة الدول العربية ينص فى المادة 17 على أنه من إختصاص المحكمة:
أ-كل منظمة أو هيئة أو مؤسسة أو مركز أو جهاز ملحق با لجامعة أو منبثق عنها والعاملين فيها أو من كانت تربطهم علاقة عمل بها.
ب-تلتزم هذه المنظمات والأجهزة بالنظامين الأساسى والداخلى للمحكمة وبتنفيذ الأحكام الصادرة عنها بإعتبارها أحكاما نهائية وملزمة.
كما ردت المحكمة قانونيا على طلب الأمانة العامة لجامعة الدول العربية ببطلان تعيين المدعية,وإسترداد كافة ما تم صرفه لها من مبالغ مالية خلال فترة وجودها بالجامعة التى إمتدت من عام 1992م إلى عام 2010م.وذكرت الأمانة العامة لجامعة الدول العربية بالنظام الأساسى لموظفى الأمانة العامة لجامعة الدول العربية والمواد 11 الخاصة بإختيار الموظفين والمادة 5,و6,و8,وأنه لا يمكن الطعن فى تعيين موظفة قضت 18 عاما فى منظمة دولية إستوفت كل شروط التعيين المنصوص عليها,وعملت لسنوات طويلة وشهد لها بالكفآة ومنحت درجات الإمتياز لزمن طويل.



كما أكدت المحكمة الإدارية أنه لم يثبت بالأوراق الرسمية عدم قيام دولة الإمارات العربية المتحدة بترشيح المدعية للعمل لدى جامعة الدول العربية وقت تعيينها فى عام 1992م,أو فى أى وقت لاحق,وأن المدعية تقاضت راتبها وكافة مستحقاتها المالية نظير عملها,إعمالا لقاعدة أن الأجر مقابل العمل.
كما طعنت المحكمة الإدارية فى كافة إجراءات المساءلة والتحقيق والعقوبات التى لم تلتزم الأمانة العامة بها بأنظمة وأحكام الجامعة العربية.واشارت أنه لم يثبت بالأوراق كما لم تقدم الأمانة العامة لجامعة الدول العربية ما يفيد إجراء التحقيق الكتابى مع المدعية وإبداء دفاعها كتابة قبل توقيع جزاء الفصل من الخدمة عليها.وذلك يؤكد على عدم مشروعية القرار المطعون عليه.
وإذ أشكر المحكمة الإدارية على إنصافها لي , ورد الإعتبار قانونيا, بعودتي للعمل وإلغاء قرار الفصل التعسفي وإعادة كافة حقوقي المادية والأدبية لى عن السنوات الخمس المنصرمة فإننى بإنتظار أن تقوم الأمانة العامة بتنفيذ حكم المحكمة, والإلتزام القانوني به وبأنظمة العمل داخل الجامعة العربية. وقد قضيت قرابة الشهر, مع المحامى محمد المحلاوى الذى يمثلني, فى زيارة الجامعة العربية ومراسلة أمينها العام وأمينها المساعد للشئوون الإدارية والمالية طلبا لتنفيذ حكم المحكمة الإدارية العربية الصادر بشأن حقوقى المستوجبة, ولم أتلقى أى رد منهم,ولم يتم تنفيذ حكم المحكمة حتى اليوم.ولربما إضطررت للعودة للمحكمة الإدارية ورفع قضية أخرى ضد الأمين العام الحالي لجامعة الدول العربية بصفته, رغم أنه متخصص فى القانون بحكم دراسته ووظائفه السابقة,وامل أن لا أضطر إلى ذلك.
و لا بد من كلمة أخيرة فى الموضوع وفى العلاقة بين المثقف والكاتب والسياسي والمؤسسة. هي علاقة شائكة ,بالتأكيد, وليست ندية.ولكن مع تهاوى الأوضاع العربية,والمطالبة الممتدة بإصلاح أحوال الجامعة العربية وتحديثها وتطويرها بما يتناسب مع الأوضاع العربية وتطوير أداءها لتكون فعالة فى أمة منهارة على كل الأصعدة فإنني أرى أن ذلك لن يحدث إلا بالإصغاء إلى الأصوات المثقفة والعروبية التى تنتقد من أجل أن نتطور وترى سؤات يتجاهلها,ويسكت عنها,وربما يزيدها العقل البيروقراطي والتقليدي والسلطوي.



أنا كاتبة ,كنت,ولا أزال,وسأبقى.
سبقت حرفة الكتابة ,عملى فى جامعة الدول العربية,وعليه فإنها عقلية ناقدة ومتابعة تلك التى أنظر بها إلى الأمور سواء من داخل المؤسسة أو خارجها ,وأتمنى أن لا يكلفنى قلمى هذا المزيد من الفواتير القاسية.وتخيلوا الموظفين طه حسين ,و نجيب محفوظ,والسفير نزار قبانى,والأديب والفيلسوف يوسف زيدان,وقاسم أمين,وعلى عبدالرازق,و محمد حسنين هيكل,والوزير ثروت أباظة,والسفير القصيبى,بل والسادات وجيهان السادات والشيخ محمد بن راشد والشيخ سلطان القاسمي حكام الإمارات,وغيرهم,ماذا لو لم يكتبوا بحكم وظائفهم أو مناصبهم؟!الثقافة والإبداع والنقد والحوار أسس أي حضارة ومؤسسة ودولة وخصوصا فى القرن الواحد والعشرين وإلا فإنها تكون غابة أو معتقل لا أقل ولا أكثر!


القاهرة.
7-6-2015 

* شاعرة من الإمارات

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *